مقاربة للمجتمع المدني في اليمن

"حياتنامليئة بالآم والآثام ،أولئك الجهال أرادوا الخلاص من موروث

 
القهر با لقهر ،ومن ميراث الاضطهاد بالاضطهاد وكنت أنت الضحية "
من حديث "نسطور "ل"هيبا"ص42،عزازيل،يوسف زيدان،دار الشروق،ط السابعة.
 
لا يمكن أن تنشأ مؤسسات مجتمع مدني في اليمن طالما والسلطة المركزية لم تنشأ لحماية الحريات الفردية, ولم تتأسس طبقية السوق , المرتكزة على الطاقة الفردية ,ما يحدث هو نشؤ يافطات مجتمع مدني , تعمل بروح عائلية تدار بعقلية "متعهدي الحفلات" وبعضها الآخر يعمل كواجهة لتكتلات قبلية , بينها وبين محتوى المجتمع المدني قرون من التحولات .
إن مؤسسات المجتمع المدني تنشأ كرديف للدولة من أجل تقديم العون لمن هم في حاجة إلى المساعدة والإعانة من أجل التطور والنمو , لكن "المؤسسات " في اليمن , إما أنها تعمل بعقلية الأحزاب التقليدية في إصدار البيانات للشجب والتنديد , دون أن تمتلك حلماً بما يجب أن يكون , وإما أنها تعمل بعقلية المرائي الذي يسعد كثيرا بالتقاط صور مع المنكوبين من الأطفال والنساء والمهمشين أو أنهم يعملون على خلق ارستقراطية ذكائية , على الطريقة الأمريكية , حين يقدمون العون للأذكياء , وليس لمن هم أحوج لرفع مستوى ذكائهم .
- لا يمكن الحديث عن مؤسسات مجتمع مدني , في ظل غياب للتحولات المدنية , فمن أجل الوصول إلى مجتمع مدني , بمؤسسات مدنية , لا بد من خلق وتنمية "الاستعداد الاجتماعي الفطري" وجعله "قوياً بما فيه الكفاية باعتباره مبدأ ناظماً في المجتمع المدني الحديث" "المجتمع المدني – التاريخ النقدي للفكرة – جون اهرنبرغ- ت د.علي حاكم صالح , د. حسن ناظم –المنظمة العربية للترجمة – بيروت 2008م – ص192.
- نحن بحاجة إلى نظام سياسي ينظم المجتمع وفقاً لمبدأ الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية , وهذا ليس تلفيقاً وجمعاً بين أفكار شرقية وأخرى غربية , وإنما طبيعة التطور والحاجة تقتضي ذلك , وضرورة إعادة النظر في التنافس والصراع الاجتماعي يقتضي ذلك أيضاً .
وبما أن السلطة هي نتاج الصراع الاجتماعي , فلا بد من تأسيس السلطة على مبدأ الحرية , فلا حرية بلا سلطة ولا سلطة بدون حرية كما يرى "باولو فريري" في كتابه " تعليم المقهورين
– ت - يوسف نور عوض 1980"
إذ لا بد من تعليم الحرية في المجتمع عبر حوارية دائماً بين الجماهير والقادة التنويريين . وبما أن الحرية في المجتمعات لا يمكن لها أن تتحول إلى حقوق وممارسة نافعة إلا في ظل القانون فلا " يمكن قيام حرية بدون قانون , ولا مجتمع مدني من دون دولة " "المجتمع المدني ..ص230".
لهذا كان مطلب الدولة وتأسيسها وفق أسس حديثة في اليمن , مرتبط مع بداية الاستقلال من الاستعمار العثماني , في بداية القرن العشرين , ومرتبط كذلك بتحولات التعليم على أسس حديثة , تفي بمتطلبات المجتمع في التخصصات المختلفة فمع الثلاثينات بدأت اليمن بالتحول نحو المجتمع المدني , فالتعليم أخذ بالتحول إلى نظام البيئة المدرسية كما هو الشأن في سوريا ومصر , والمقررات الدراسية الحديثة شملت الموسيقى والرياضة والمسرح , وهو ما نجده في مدينة التربة وتعز , في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات , ولعلّ دور الأستاذ " محمد أحمد حيدره" في هذا المجال , ودوره الريادي في التعليم الحديث على الطريقة المصرية , كونه حصل على الثانوية العامة "البكالوريا" من مصر في بداية العشرينيات من القرن العشرين , وكذلك نقله لتجربته المسرحية التي بدأها في عدن في عشرينيات ذلك القرن , إلى التربة ثم تعز , كل ذلك كان من ضمن مؤشرات التحول المدني , ثم جاء الأستاذ "أحمد نعمان " تطوراً لهذا بعد أن كان قد اصطدم به نتيجة تعليمه التقليدي والمحافظ في زبيد , إلا أنه سرعان ما استوعب أهمية التطور والتحول فانخرط بعد سفره إلى مصر وتأثره بها في ثلاثينيات القرن باتجاه التحولات الإصلاحية وليس الراديكالية , وهو ما يشبه الدور الذي قام به مفكرو القرن السابع عشر والثامن عشر في فرنسا لدى مونتسكيو وجون لوك, فإذا استثنينا "جان جاك روسو" فإن مونتسكيو وجون لوك كانا مع سلطة وسيطة للنبلاء , تحد من سلطة الملك , وتمنع من ثورات الفقراء وانتفاضاتهم , لكن الثورة الفرنسية في مراحلها الأولى يبدو أنها استندت إلى جان جاك روسو , وبالتالي على طبقة الفقراء , ولم تهذب من عنفهم , وإنما سارت بالعنف إلى درجات أكلت فيها رواد هذا التوجه العنيف , ولعلّ صرخة "لا فوازية " الموجهة إلى روبسبير , كنبؤة على مآل العنف , هو تعبير عن خطورة هذا العنف الذي سيأكل أصحابه , وربما أن مآل العنف هو ما حدا بكانط أن ينظر إلى الثورات باعتبارها عودة إلى البدائية .
لقد كانت فكرة الأستاذ النعمان عن " الأطراف المعنية " وهي الصيغة التي اعتمدها ابنه "محمد أحمد النعمان" تجسيداً لهذا النزوع الإصلاحي في التغيير الذي يرى ضرورة التحولات والإصلاحات , ولكنه لا يرى ولا يتفق مع عنف الثورات , وهو ما يسم موقف النعمان الأب من الموقف الذي اتخذه قادة حركة (1948) وتحديداً اتجاه "الفضيل الورتلاني" ممثل "الأخوان المسلمين" في اليمن , وهو الذي كان يمسك بزمام القرارات السياسية للحركة – ذلك القرار المتمثل بضرورة قتل الإمام "يحيى حميد الدين" وهو ما عارضه الأستاذ النعمان , ورآه بداية دموية , لا ينبغي السير فيها .
إن قراءة ميثاق حركة (1948) وهو ما أسموه بـ" الميثاق المقدس" يجعلنا نستنتج , أن هذه الحركة كانت أشبه بحركة النبلاء في أوروبا عصر النهضة , ضد الملوك المستبدين , أي أنها كانت ثورات الارستقراطيين النبلاء ضد تفرد واستبدادية الملك , على عكس ثورة 1962 التي كادت أن تتحول خلال سنوات مواجهة الملكية , إلى ثورة الفقراء , لكن نبلاء اليمن , سرعان ما أعادوا الثورة إلى سياقهم الانقلابي , بعد أن حسم التوتر بين ما يمكن أن نسميهم بالنبلاء والأعيان من مشايخ القبائل والفقراء الذين مثلوا المؤسسة العسكرية الناشئة منذ ثلاثينيات القرن العشرين على أسس حديثة نتيجة الابتعاث إلى العراق..
- وهو ما أشار إليه الدكتور "حسن مكي" في مذكراته "أيام وذكريات- الصادر عن دار عبادي -1429هـ - 2008 م حيث قال :" وقد لاحظت قبل الثورة وبعدها , وحتى بعد عودته "يقصد عبدالله السلال رئيس مجلس قيادة الثورة " من الخارج بعد سنين من الإحاطة بحكمه ليعيش مواطناً عادياً , أنه لا يطمئن إلى مشايخ القبائل , وكان يعتقد أن اليمن لن تتطور ما داموا يتحكمون في السلطة وقد أدى شكه العميق فيهم إلى زيادة عدم اطمئنانه إليهم وخوفه على تطور اليمن من تأثيرهم بعد الثورة "ص158 , ولأنه لا ينتمي إلى طبقة النبلاء وإنما إلى شريحة الفقراء فقد قالوا عنه بأنه لا ينتمي إلى أصل قبلي يعتد به ص158 وهو بدوره كان يضعهم في مستوى بيت حميد الدين من حيث إعاقة تطور اليمن .
لقد كان حرص نبلاء اليمن على الاستيلاء على المجالس التشريعية , بعد ثورة 1962م يتطابق مع استيلاء وحرص نبلاء أوروبا على هذه المجالس عقب كل اصطدام بملك متفرد بالأمر حتى تكون هذه المجالس تجسيداً لهذه الطبقة الارستقراطية "الأطراف المعنية" بالحكم كشركاء للحكم وليس تابعين , مع وجود تمثيل رمزي لأعيان المناطق الزراعية في اليمن الأسفل , وهو ما جعل "النعمان" الذي لم يختلف من حيث مبدأ , أي تمثيل النبلاء للشعب , ولكن على أن يكون التمثيل متوازنا مع كافة " الأطراف المعنية" في اليمن , لقد تنبه الأستاذ "النعمان" إلى الاختلاف في المطالب السياسية بين اليمن الأعلى واليمن الأسفل , فالرعوي كان يطلب العدل كمطلب ملح , والقبائل كانت ومازالت تطلب السلطة , بعد أن ذاقت حلاوة الثروة , التي وزعت لهم من قبل الأئمة , ومن ضمنها ما عرف بأوقاف "الملكة أروى" وهي الأموال التي اعتمدوها في البداية في مقاومتهم لسعي الإمام يحيى إلى توطيد وتأسيس مركزية المملكة المتوكلية والمساواة بين "الأنصار" القبائل , وقد سموا بالأنصار لنصرتهم الأئمة في حروبهم التأسيسية – وبين الرعوي المزارع , كان ذلك قبل أن تبدأ بريطانيا والسلاطين في المحميات بدعمهم .
قد يستنتج القارئ , أنني مع الرأي القائل بأن التحولات المدنية في اليمن كان يمكن لها النجاح , دون الحاجة إلى انقلاب النبلاء على المملكة المتوكلية في 1948م وهذا صحيح , فعلى مستوى التعليم والإدارة والمرافق الصحية والطرقات ونشؤ القطاع التجاري , مثل شركة المحروقات وظهور بعض البيوتات التجارية , كل ذلك كان قد بدأ في النشأة وإن ببطء وحذر في البداية , لكنه سرعان ما تراكم بحسب الحاجات والضرورات , لكن ثورة 1962م جاءت بأحلام متجاوزة للإصلاحات , نحو مطلب إشراك الجماهير في الحكم , باعتباره حاجة المصلحة الحقيقية في التغيير , لكن الأمور لم تسر كما أراد لها الرومانسيون الثوريون , ابتداءً بعلي عبد المغني ومحمد مطهر زيد ومروراً بعبد الرقيب عبد الوهاب وناجي فرحان والوحش وإبراهيم الحمدي وغيرهم , لقد عادت الأمور إلى انقلاب دموي في مارس وأغسطس 1968م.
وأطاحت بالرومانسيين القادمين من الطبقة الفلاحية والعمالية الفقيرة ليسيطر نبلاء الشمال على الحكم وخاصة مفصله التشريعي , تماماً كما صنع نبلاء أوروبا حين كانت انقلاباتهم تستهدف التشريع والتحكم بزمامه , ولم يكن صدام الأئمة مع النبلاء يبدأ دائماً مع المواريث والمظالم التي يمارسونها .
لقد تكالب على النظام المتوكلي الحذر والبطء في التحولات المدنية , إضافة إلى طمع القبائل بالحكم ومظالم العسكر البراني , الذي كان قوامه من قبائل الشمال , إضافة إلى تهافت أبناء الإمام يحي على الحكم والصراع فيما بينهم من أجل وراثة الملك بعد أبيهم , فلم يكن الأمير إبراهيم هو الوحيد الذي تآمر مع الأحرار لإسقاط واغتيال أبيه في 1948م وإنما كان الأمير علي يراسل الأمريكيين في 1946م من خلال "عبد الله عبد الوهاب الشماحي" "وفضل بن على الأكوع" طالبين من الأمريكيين إعطاء الأمير "علي" تصريح دخول إلى أمريكا حتى يتم عمل انقلاب على الإمام يحيى , بعدها يعود الأمير علي ليحكم اليمن , لكن الأمريكيين كانوا حينها قوة صاعدة وليس لها تاريخ استعماري , وملتزمة بمبدأ عدم التدخل في شؤون الدول , فرفضت طلب الأمير علي.
وحين قام الأخوان المسلمون في مصر بالتخطيط والتنفيذ لانقلاب 1948م أرسل الوزير الأمريكي في جدة تقرير إلى وزارة الخارجية الأمريكية , يشير فيه إلى دور بريطانيا في حركة 1948م وإيعازهم للإخوان المسلمين في مصر بدعم الانقلاب - ينظر كتاب "العلاقات اليمنية الأمريكية في عهد الإمام يحيى بن حميد الدين" 1322هـ 1367-1904-1948دكتور محمود محمد هملان الخيارات .
لم يكن حكم الإمام يحيى حكماً دينياً محضاً , وإنما كان كما يصفه أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب "ديني وضعاً ,مدني عملاً " وحين نعود إلى مراسلاته مع الرؤساء والملوك آنذاك نستطيع أن نتلمس هذه الروح المدنية في العلاقات الدولية , فهذه رسالته إلى " لينبن " وكان من أوائل من أعترف بالثورة البلشفية بالنسبة للعرب , وذلك عام 1928م التي يقول نصها " إلى الزعيم لينبن , نعترف بدولتكم , ولكم دينكم ولنا دين " ص23 – العلاقات اليمنية الأمريكية – مرجع سابق .
يشير كتاب "العلاقات اليمنية الأمريكية "وهو كتاب يعتمد على الوثائق الأمريكية خلال فترة 1904- 1948 إلى أن بريطانيا هي من يقف خلف انقلاب 1948م وأنها أوعزت إلى حسن البنا أن يقوم بالدعم والتخطيط للانقلاب , رغم أن حسن البنا أنكر ذلك وقال :" إن العمل الحقيقي كان من قبله هو ومنظمته , وليس للبريطانيين فضل أكثر من أي كان في اليمن "ص300 , إلا أن شكوك أمريكا مبني على مصلحة بريطانيا في إزاحة حكم الإمام يحيى , تسوية وضع المحميات وعدن مع النظام الجديد , والتخلص من النفوذ الأمريكي الذي كان بعلاقات واتفاقيات تجارية مع الإمام يحيى .. لكن قوة الأمير أحمد غيرت الموازيين من وجهة نظري , وجعلت الملك عبدالعزيز آل سعود يرفض دعم الانقلاب وكذلك تراخى الدعم البريطاني بعد أن ضمنوا عدم مطالبة الأمام "أحمد" بعدن والمحميات , بعكس ما ظل أبوه متمسكاً به باعتباره ميراث آبائه وجزء من اليمن الطبيعي .
- ولم يبق في الواجهة إلا الأخوان المسلمين كجناح سياسي وجمال جميل كجناح عسكري , وربما لو نجح الانقلاب لكان الصراع قد بدأ بين الجناحين , لأن ما جمعهما هو الرغبة بالإطاحة بالإمام يحيى , أما كيفية الحكم فلكل طرف أجندته الخاصة , وهو ما لمسه أحد الصحفيين المصريين الذين زاروا اليمن بعد الانقلاب ولمس هذه الثنائية والتنافس بين جمال جميل من جهة والفضيل الورتلاني من جهة أخرى .
إن الحديث عن مجتمع مدني في اليمن يقتضي وجود دولة مركزية تعمل على تطوير البنى التحتية لهذا المجتمع المدني , وهي تحولات كانت قد بدأت منذ عشرينيات القرن العشرين فيما يخص بناء دولة مركزية , وفي الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات فيما يخص التحولات التعليمية والتجارية والإدارية والصحية وشبكة المواصلات ... لكن بناء الدولة المركزية تعرض في اليمن للانقلاب .
فانجاز مرحلة الدولة المركزية , كان يفترض أن يتم في الستينيات وهو ما تم إفشاله , وكذلك في السبعينيات مع حركة 13 يونيو 1974م وهو انتهى كذلك إلى الفشل فـ "لا يكفي أن نقول مع القائلين .. وما أكثرهم – أن لا ديمقراطية مع رجل المباحث , بل لا بد أن نضيف مع القائلين –وما أقلهم في زمن غلبه الأطروحات الشعبوية في الساحة الثقافية العربية : أنه لا ديمقراطية أيضاً بدون رجل الشرطة . فالمجتمع المدني نفسه – هذا إن وجد أصلاً – سيرتد إلى غاب فيما لو غابت الدولة " ص15 –هرطقات :عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية –جورج طرابيشي- دار السافي ط2 -2008م .
لا يمكن الحديث عن مجتمع مدني معاصر في اليمن وليس فيها سوى بضعة مراكز ثقافية لا تعمل إلا في المواسم مقارنة بأكثر من (450) مركزاً ثقافياًَ في سوريا مثلاً , وهي دولة بدأت الانقلابات بها في مرحلة قريبة من الانقلابات في اليمن – وليس لدينا في اليمن سوى بضعة مكتبات وطنية مقارنة بالكثرة الموجودة بمصر والشام كنظامين جمهوريين شبيهين دستورياً بالنظام السياسي في اليمن , إضافة إلى غياب هيئات رسمية لصناعة الكتاب باستثناء هيئة يتيمة ومشلولة أسمها ":الهيئة العامة للكتاب , والتي أصبحت ترى أن صناعة الكتاب ليس من مهامها وإنما مراقبة الكتاب ! هناك غياب لدُور السينما وقد انقرض ما كان موجوداً قبل الوحدة في الشمال والجنوب من هذه الدُور , وأقصيت المرأة من المسرح , كمقدمة لإقصاء المسرح من الحياة , ليصبح لدينا "مسرحاً " ذكورياً دعوياً , مرتبطا بالتجاذبات السياسية المنتجة للتخلف , أقصد بذكورية المسرح أنه أصبح ذكورياً يخلو من الممثلات .
لقد انقرضت العديد من مظاهر المدنية التي نشأت في عدن , في بداية العشرينيات من مسرح ونقابات وأندية وصحافة تنويرية وسينما , وكذلك وئدت التحولات المدنية وإن كانت بطيئة وحذرة في الشمال بفعل غلبة القبيلة على الحكم في الشمال , لم يعد لدينا مجمعاً مدنياً , لنصبح على واقع يحرم الاستماع إلى الأغاني في وسائل المواصلات العامة , ويحتشد فيه رجال البرلمان لتحريم ومناهضة حفلة غنائية لفنانة أقرب إلى المحافظة والتقليد مثل "أصالة نصري" وتحريم الغناء كونه "رقص على آلام الجياع " في توظيف للجوع كنقيض للغناء "اللهو " , واجتماع القوى السياسية الممثلة في البرلمان من أجل إقفال المطاعم ومحلات المساج الصيني واعتباره فساداً في الأرض , دون أن نجد احتشاداً من أجل التأسيس والنهوض بمجتمع مدني , أو حقوق مدنية , بل يصل الأمر إلى الغموض تجاه حرية المرأة لدى تيار سياسي مثل القوميين واليساريين , وتحولت القيم المجتمعية إلى نقيض للإبداع , حتى أن رواية متواضعة فنيا مثل "قوارب جبلية " يتم منعها وتحريمها ، وترفع دعوى تكفير ضد صحيفة الثقافية في التسعينيات لإعادتها نشر رواية قد مضى على طباعتها عقود من الزمن "صنعاء مدينة مفتوحة " لمحمد عبد الولي .
لا يمكن الحديث عن مؤسسات مجتمع مدني , دون أن يتأسس هذا المجتمع المدني ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً , فالأحزاب السياسية ليست تعبيرا عن مجتمع مدني في اليمن , إنما انعكاس لانساق متخلفة تتشابه برامجياً وكأنها مرايا عاكسة لوعي واحد متماثل , ولا يمكن الحديث عن "الدكاكين" التي يتم افتتاحها وإشهارها منذ بداية التسعينات وحتى اليوم أنها مؤسسات مجتمع مدني , فهي شبيهة بذلك الرسام ولا أقول التشكيلي –الذي يبيع لوحاته للسياح وفق مقاييس وذوق سائح أجنبي شبه أمي , جاء ليستمتع بما تبقى من سنين عمره التي قضاها في الكد والعمل . إن ما يسمى "بمؤسسات المجتمع المدني" والتي يديرها أفراد قدراتهم المعرفية وإخلاصهم لا يتجاوز قدرات وإخلاص "متعهدي الحفلات" يقومون بتنفيذ ورش وفق مقاييس المنظمات الداعمة , وفي صالات الفنادق بعيداً عن القاع الاجتماعي والجمهور المعني بها , بل ويسير بعضها وفقاً للفلسفة الأمريكية في تعزيز الأقوى والمتفوق , فتمنح الجوائز للمتفوقين وتفتح فصول دراسية للأذكياء وكذلك مدارس خاصة بهم , مما يؤدي في نهاية المطاف إلى وجود ارستقراطية للأذكياء مستقبلاً , بدلاً من توجيه الدعم لمن هم بحاجة للمساعدة أي دعم الضعفاء وتطويرهم .
إن الحديث عن مجتمع مدني في ظل ظروف سياسية تتمثل في انفصال الدولة وأجهزتها عن المجتمع المدني, بمعنى غياب دورها في تعزيز وتطوير المجتمع المدني , وأخرى اجتماعية يتمثل في انتشار الأمية , وتفاقم الفروق والطبقية , ومناخ إيديولوجي يتمثل بتراجع القوى التنويرية وصعود الأصولية "محمد برادة – الإبداع العربي..كتاب العربي رقم 77 يوليو 2009م – هذا الحديث عن المجتمع المدني يصبح تزييفاً واضحاً يسهم في تعميق مأزق المجتمع المدني المنهار أكثر منذ ما بعد هزيمة 1967م وإلى التصدع المهول الذي تعيشه المجتمعات العربية خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة ، تصدع يجعل الفكر التنويري والإبداع الطلائعي يعيشان في ما يشبه الحصار وسط مجتمع هو نهب لإيديولوجيات مكتسبة , تزعم السعي إلى التحديث والتنمية , وفكر الاعتدال , وفي الآن نفسه توظف الفكر الديني الجامد لتبرير الوصاية والحكم الفردي .. وهو أيضاً نهب لإيديولوجيات أصولية , ماضوية تستبيح استعمال تأويل متزمت للنص الديني لكي تخضع الناس إلى روح القطيع وتسعى إلى اغتصاب السلطة بالوعد والوعيد " "محمد برادة – المرجع السابق" .
يذكر إبراهيم سعد الدين في مقدمته لكتاب "الموجة الثالثة –التحولات الديمقراطية في أواخر القرن العشرين – لـ" صامويل هانتنجتون": والذي ترجمه إلى العربية د. عبد الوهاب علوب –دار سعاد الصباح عام 1993م – يذكر أن المجتمع المدني بدأت بذوره الجنينية في الوطن العربي في فترة ما بين الحربين العالميتين (1918- 1939) وهو ما ينطبق كذلك على اليمن , حيث تشكلت في هذه الفترة طبقة متوسطة , من القضاة وكبار ملاك الأراضي والتجار , وبدأت هذه الطبقة بالإعداد للإطاحة بالنظام المتوكلي , وهو ما تكلل بانقلاب 1948م الذي أعاق التحولات المدنية وأضعف الدولة المركزية , ثم استمرت المحاولة مرة أخرى بانقلاب 1955م بالتحالف مع الجيش بقيادة الثلايا والتحالف مع الأمير عبدالله أخو الإمام أحمد والعمل على نقل الحكم إليه عن طريق التنازل ونقل الإمامة إلى الأمير عبدالله وهو الذي أنتهي إلى الفشل , و إعدام الكثير من المشاركين في هذا الانقلاب , وهو انقلاب ظهر فيه الإمام أحمد كنصير للفلاحين في منطقة الحوبان بمدينة تعز , بعد أن أحرق مجموعة من العسكر مزارع في الحوبان وقتلوا بعض المزارعين فاشتكى المزارعون إلى الإمام أحمد , وحين طلب الإمام العسكر للاقتصاص منهم تمرد الجيش في منطقة العرضي وتحول التمرد إلى انقلاب .. ومع عام 1962م كانت اليمن على موعد مع تحول نحو الأنظمة الجمهورية التي تزعمها العسكر ضمن حركات التحرر الوطني آنذاك , وهو ما أدى إلى توقف النمو الطبيعي للمجتمع المدني في اليمن وأدى إلى نظام يمكن وصفه بعد انقلاب 1967م بجمهورية 5 نوفمبر 1967م , وهو نظام يقوم على عسكرة الدولة وقبيلتها في آن ( إن جاز النسب إلى القبيلة ) .
إن ديمقراطية يسيطر عليها العسكر والنبلاء "الأطراف المعنية " لا يمكن أن تكون ديمقراطية , لأن ركني الديمقراطية "التنافس والمشاركة منعدمان , لغياب الغالبية عن المنافسة والمشاركة .
يقول روسو :" إن القويَّ لا يمكن أن يظل قوياً بدرجة تكفي لبقائه في موقع السيادة إلى الأبد إلا إذا حول القوة إلى (حق) الزعماء المستبدين في الحكم و(واجب) شعوبهم بالطاعة "ص108 –الموجة الثالثة ..صامويل هنتجتون - وهو ما ينطبق على صندوق الانتخابات في اليمن , المحاصر بالجيش والقوى المشيخية وكبار التجار والإسلام السياسي , وهو ما يعمل على استبعاد غالبية أفراد الشعب , لتأتي النتيجة تحويلاً للقوة إلى "حق" هذه القوى في الحكم و"واجب" الشعب بالطاعة .
لا أعتقد أن الإسلام ضد الديمقراطية , كما هو شأن حتميات "صامويل هنتجتون " في ربطه بين الاستبداد والإسلام والبوذية والكونفوشيوسية , وبين الديمقراطية والمسيحية الغربية تحديداً حيث قال :" وتٌعدُّ الديمقراطية أمر نادراً بين الدول التي تدين بالإسلام أو البوذية أو الكونفوشيوسية "ص139-المرجع السابق ذكره , وهي ديانات آسيوية من حيث الغلبة والانتشار كما نرى على المستوى الجغرافي .
إن الذي يسلب الأمم حريتها هو توظيف الدين لمصلحة الاستبداد وهو ما نلحظه في مراحل تاريخية مرت بها أوروبا مثلما هو الحال الآن في الدول العربية والإسلامية , التي تستخدم الدين لتقوية الملك , فالأنظمة السلطانية تتميز كما يرى بحق " صامويل هانتجتون " "بالمحسوبية ومحاباة الأقارب والفساد والنفاق "ص182 – الموجة الثالثة - وهذه سمات تشمل معظم الأنظمة العربية وفي مقدمتها مصر , التي يرى "هنتجتون" أنها تنتمي إلى موجات التحول الديمقراطي , وهي رؤية متحيزة للدول بحسب درجة علاقتها بأمريكا , وهو توصيف يلتقي في تحيزه مع رؤية سعد الدين إبراهيم في مقدمته للكتاب حيث وصف استبدادية "جمال عبد الناصر" وغض الطرف عن استبدادية أوسع زمنياً وانفرادياً لدى نظام "حسني مبارك وكذلك يصف سعد الدين إبراهيم في مقدمته لكتاب هنتجتون السابق الذكر – الانتخابات اليمنية في التسعينيات بأنها ديمقراطية , وهو يعلم أن نظام الانتخابات في اليمن لا يقوم إلا عبر المحاصصات المسبقة بين أطراف السلطة التقليديين بشكل أساسي , مع إعطاء نسبة الهامش للشركاء الجدد في العملية "الديمقراطية " وإذن فهو نظام يشبه نظام المحاصصة الطائفي في لبنان ، وإن كان في لبنان دستوري بحكم اتفاق الطائف , وفي اليمن غير دستوري لأنه ينقض مبدئي المنافسة والمشاركة المقرة في الدستور .
يبدو أن النظام الديمقراطي لدى "هنتجتون" كما هو الشأن لدى الدكتور "سعد الدين إبراهيم " هو ذلك النظام الرأسمالي التابع للرأسمالية , أما أن تكون نتيجة صناديق الاقتراع بما يتعارض مع الرغبة والمصالح الرأسمالية , فذلك ليس سوى غفلة وعدم قدرة الجماهير في تقرير مصيرها بحسب خيارات الرأسمالية الأمريكية , فصعود اليسار أو القوميين عبر صناديق الاقتراع لا ينزع عنهم صفة الشمولية طالما وأنها راديكالية في تعاملها مع الغرب وتحديداً مع أمريكا !
إن الحديث عن مجتمع مدني غائب وغير نامي في الحياة اليومية , هو أشبه بما أورده "باولو فريري" في كتابه "تربية الحرية" – ت أحمد عطية أحمد – آفاق تربوية ط1 -1425هـ ابريل 2004م – على لسان طالب نيجيري مقيداً في برنامج تدريب معلمي محو الأمية حيث قال لمعلمته ذات البشرة البيضاء أثناء مناقشتهم قضايا القهر: " لقد سئمت من القاهر الذي يذكر المقهور دائماً بحالته " وهي حالة مشابهة بخطاب الأحزاب التقليدية في اليمن , التي لا تجيد سوى تذكير الناس بواقعهم وما يعانونه من قهر , دون أن يكون لديهم تصور مغاير لثقافة القهر التي يناهضونها !
لم تستطع المقاومة اللبنانية أن تنتزع ثقافة القهر لدى اللبنانيين في الجنوب , رغم الصمود والبطولات في مواجهة الإسرائيليين , ومنها صمودهم عام 2006م ضد الاجتياح الإسرائيلي للجنوب .. لقد كان أبناء الجنوب يخرجون من تحت الأنقاض قائلين : المهم حياة السيد , كلنا فدى السيد.. فالمقاومة وإعلامها يعززون مثل هذا الاستلاب , غير مدركين أن المقاومة الحقيقية , هي في نزع هذا الاستلاب والتحرر منه , لا تأكيده وتعزيزه بالإعلام اليومي التابع للمقاومة !
إن التحولات المدنية تحتاج إلى "شجب عملية إلغاء الإنسانية , وإعلان الحلم بمجتمع جديد" ص130 – تربية الحرية – باولوفريري – ت أحمد عطية أحمد ط1-2004م . وبدون هذا الجمع بين الشجب والحلم , ستستمر الصفوة بسحق المقهورين تحت الأقدام , فالقادة الثوريون "يزدهرون فقط عندما يعملون مع الناس , واستناداً على هذا الفهم فلا يمكن أن يكون أسلوب القاهرين إنسانياً , وعلى العكس من ذلك فإن نهج الثوريين يتسم بإنسانيته الدائمة " تعليم المقهورين – باولو فريري- ت يوسف نور عوض دار القلم -1980م ص100.
فالتحولات المدنية تحتاج إلى حوارية دائمة مع الجماهير والالتحام بها كما يرى "فريري" أما التعامل معها كأشياء فإن ذلك يعيد إنتاج القهر ولا يلغيه , والحوار مع الجماهير يقتضي الابتعاد عن الأسلوب الخطابي غير المجدي , وكذلك حسب "فريري" الأسلوب الميكانيكي الخادع وأن يحول دون أي عمل تمارسه الصفوة المتسلطة لتصرف الجماهير عن توحيد نفسها من أجل تحقيق أهدافها في الحرية والتغيير " تعليم المقهورين ص130.
------------------------------------------------------------
*الهويات الطاردة في اليمن -قراءة نقدية للهويات المتخيلة -محمد ناجي أحمد-ط1،عدن للطباعة والنشر ،2010م

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 9 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.