مذكرات الرئيس القاضي عبد الرحمن بن يحيى الإرياني – الجزء الثاني 1962م - 1967م

قصة مقتل الزبيري :
لقد صرح القاضي الإرياني في هذه المذكرات بقصة مقتل الزبيري ، وهو ما لم يقله حين كان حيا ،لكن قول  الحقيقة  للتاريخ ولو متأخرا خير من  كتمانها .يروي أن النقيب ناجي بن عبد العزيز الشائف قد جاء هو ونقباء آل الشايف إلى الزبيري والإرياني والنعمان وهم في برط بضيافة النقيب أمين بن حسن أبو رأس ،وقدقدموا دعوة للقاضي محمد للقيام بزيارة بلدتهم (رجوزة)وكان القاضي محمد رحمه الله يعتذر ،ولعلّ بعض المخلصين من ذو محمد قد حذره من زيارة المنطقة لكنه أخذ التحذير على أنه بدافع التنافس بين قبيلتي ذو محمد وذو حسين .
ولما جئنا وجد النقيب ناجي بن عبد العزيز المناسبة أوسع فجدد الدعوة وأقسم على ذلك بالأيمان المحرجة كما هي الطريقة المألوفة ،وترك الأمر إلى القاضي محمد فوافق وحدد الوعد  ليوم الأربعاء  13/ 3” ص 304  .وفي يوم الأربعاء تحرك الزبيري والإرياني والنعمان وآخرون إلى (رجوزة) مركز قبيلة ذو حسين ،وعند عودتهم من الضيافة أعدوا لهم فرسين وحماراً ،وأبى الزبيري الاّ أن يركب الحمار ،وترك الفرسين لصديقيه النعمان والارياني ،بحجة أنهم ضيوفه ،وبعد أن ابتعدوا مركز قبيلة ذو حسين بميلين سمعوا طلقة رصاص ،وقد كانت تلك إشارة وتنبيهاً للكمين بأن الزبيري وصحبه قادمون ،”وتقدمنا القاضي محمد على حماره مزهوا به ،لأن الخيل قد عجزت عن اللحاق به ،وحينما اشرفنا على قرية (رهيمات)ما بين (مداجر)و(رجوزة)و(لام)سمعنا عدة طلقات قريبة ونظرنا أمامنا فإذا بالقاضي محمد بن محمود الزبيري يهوي من على ظهر الحمار المشئوم وهو يقول الله الله الله ثلاثا ويفارق الحياة ...وهكذا فارق الشهيد الحياة في الساعة السابعة والنصف من صباح اليوم الخميس الموافق 1/ 4/ 1965م رحمه الله ورضي عنه ...أما القاتلان المجرمان وهما درهم بن حمود الفاحي من ذو حسين وحسن محمد الشتوي جار لذو حسين ،وقد تبين أنهما يترصدانه من قبل شهرين ...ومع ذلك فقد جاء مشايخ القبيلة وأخذونا إلى ظل بيت بعيد عن مرمى القاتلين ،وتوافدوا كالمعتذرين يكسرون أجهزتهم (أغماد خناجرهم)ويقصون لحاهم تعبيرا عن تعييبهم من الحادث ، ص«305 - 307»  .وقد كان النعمان والإرياني تحت فوهة بنادق القاتلين  ،الاّ انهما اتفقا مع الأمير محمد بن الحسين على قتل نفر واحد فقط ،وهو الزبيري .وبعد ذلك تم القبض على القاتلين ،ورفضت القبيلة تسليمهما لحكومة صنعاء ،واشترطوا تسليمهما إلى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر  بعد “اللتيا والتي “308ص ،وقد أودعهما الشيخ الأحمر في سجن “مهلهل”في حاشد،وهو من أعتى السجون منعة “ولكن لم يمض شهر على سجنهما حتى جاءت الأخبار بأنهما فرّا من السجن وأن محمد بن الحسين بعث لهما مبلغا من الذهب فرشيا الحرس وفر معهما أحدهم .وهكذا طل دم الشهيد الزبيري وذهب ضحية مصانعة القبائل لبعضهم .وقد كان الشيخ عبد الله يبدي من المشاعر نحو الزبيري ما يعرب عن مدى تقديره بل تقديسه ،ولكن القلوب تتقلب وعلاقته مع قبيلة ذو حسين بل قبيلة دهم كلها كانت في نظر القبائل التي سهلت فرار المجرمين أهم من تحقيق العدالة والأخذ بثأر شهيد اليمن وأبي الأحرار محمد محمود  الزبيري “309ص.أي إن دم الشهيد الزبيري لايساوي قبليا أكثر من قص اللحى وتكسير اغمدة الجنابي ،وتقديس الأحمر للزبيري لا يساوي شيئا أمام الروابط والالتزامات القبلية !ويبقى سؤال للإرياني كان ينبغي له أن يوضحه ،فالرعيني نبهه في تعز إلى ضرورة عودة الزبيري من برط إلى صنعاء لأنه سيقتل ،فمن أين عرف الرعيني بذلك قبل مدة من مقتل أبي الاحرار؟
محاولة اغتيال السلال بعد عقب مؤتمر خمر:
بعد أن انتهى المؤتمرون في خمر من اصدار الدستور المؤقت “دستور خمر “”وقد جاء بثمان وسبعين مادة وأبرز ما فيه هو تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية ،وإعطاؤها للمجلس الجمهوري ككل ،والتأكيد في المادة الثالثة على الشريعة الاسلامية مصدر القوانين جميعا “320ص.ومن المفارقات أن القبيلة دائما تزايد بهذه المادة ،وتحكم بطاغوتها في الدماء والأموال !ودم الشهيد الزبيري بما له من مكانة أبرز شاهد على ذلك !وقد أصدر السلال قرارا جمهوريا بالدستور المؤقت ،الذي وضعه مؤتمر خمر بتاريخ 8/5 /65م.كما أصدر قرارا مؤرخاً بـ 12/ 5/ 1965م ينص على الاكتفاء بعضوين في المجلس الجمهوري ،وتعيين القاضي عبدالرحمن الإرياني والشيخ نعمان بن قايد بن راجح في المنصبين ،مع ذلك قد خطط المشايخ لاغتيال الرئيس السلال واللواء حسن العمري حين خرج الرئيس والعمري وقائد القوات العربية لاستقبال القادمين من مؤتمر خمر ،وكانوا بالآلاف “وغرّ المشائخ المعارضين عددهم الكبير ففكروا في قتل الرئيس السلال واللواء العمري ،وكانوا يرون فيهما أساس المشكلة لانصياعهما لكل ما تريده القيادة العربية ص «320» .وقد توقفوا عن التنفيذ لأن الارياني كان إلى جوار العمري والسلال تحت شجرة علب (سدر)وقد كلفوا النقيب نعمان بن قايد ليدعوالارياني إليهم ،فذهب الارياني ووجد من تحركاتهم  ما يثير الريبه ،وحين أخبروه بالمخطط رفض ذلك بشدة وعاد إلى جوار السلال والعمري كي لا يجدوا فرصة لتنفيذ جريمتهم !وقد “كان الشيخ سنان أبو لحوم على رأس المفكرين في العملية”ص 323 .
حين كانت الإعدادات والتحركات جارية لعقد مؤتمر خمر ،أرسل العيني وعبدالكريم الإرياني رأيهما في الحركة الاصلاحية ،وحزب الله ،وقد ابديا رأيهما عن التسمية “حزب الله”وأنها وإن كانت تلقى تقبلا ونجاحا في الداخل الاّ أنها في الخارج ربما توصف بالرجعية ،لهذا يمكن استخدام الاسم في الداخل ،وأما في المراسلات مع الخارج يمكن “التركيز على اسم آخر كالحركة اليمنية ،أو الاتحاد الشعبي أو ما شابه ذلك ص“296.ثم حذروا من الاتصال مع الامريكيين لأن ذلك لن يجدي ،بل سيشوه الموقف فقط ويضعف الحركة ،وحذروا من التواصل “حتى مع رجالهم في تعز لا تعطوهم أي فرصة للاتصال وإذا اتصلوا فاصرفوهم بحجة أن هذه أمور داخلية ص“297.وقد علق الاستاذ النعمان بعد قراءته للرسالة ،فقال “إن العيني قد عناني في التحذير من الاتصال بأمريكا ،فقلت لم يقصدك وإنما هي وجهة نظر وهي سليمة جداً ،فأنت تعرف أن المخابرات تتهمنا بالاتصال بعدن وامريكا وغيرها من الدول الاستعمارية ،ذلك ونحن لا نتصل فكيف بنا وبهم لو اتصلنا ،فقال الاستاذ النعمان قد يكون ذلك ولكن الاستاذ محسن إنما يهدف بالتحذير إلى احتكار الاتصالات الخارجية ص “299.وقد ذكر محسن العيني في مذكراته إسهامه في صياغة مقررات مؤتمر خمر وحضوره الفاعل فيه.
لا تجد في مذكرات القاضي عبدالرحمن أو غيرها من مذكرات النوفمبريين –أركان جمهورية 5 نوفمبر 67م-موقفاً  سلبياً  تجاه الملك فيصل فهم إلى الإعجاب به والإشادة بحزمه أميل ،بل إن القاضي الارياني لا يجد ما يصفه به أنه “عنيد”،لكنهم حين يتناولون الدور المصري في اليمن وجمال عبد الناصر يصورونه على أنه “استعمار متخلف “ويصورون ناصر بالمغامر ،ويتخذ قرارات بدافع الثأر الشخصي! فسياسة ناصر التي نفذها في اليمن حسب تعبير الارياني “بوعي أو بغير وعي لم تتجرد من روح التسلط الإقليمي والغرورالشخصي ،وكانت من أول لحظة ،بل من قبل قيام الثورة اليمنية نفسها ،تقوم على التعامل مع عدد قليل من العملاء ،الانتهازيين ومحاربة الثوار الحقيقيين بشتى الوسائل ص344.
ومع ذلك حين تحاول مصر أن تتقارب مع السعودية لحل القضية اليمنية ،نجد الارياني يطلق عليها من الأوصاف السلبية ،الكثير ،وأنها كانت تهدف من تدخلها في اليمن إلى محاربة السعودية وليس دعم الثورة اليمنية ،لكنه حين يجد لجنة المتابعة لقرارات مؤتمر خمر ،تعلن في لبنان على لسان أمين عام مؤتمر خمر ،مطالبتها بسحب القوات المصرية في اليمن ،واختيار حكومة انتقالية مؤقتة ثم بعد ذلك يستطيع الشعب “أن يقرر مصيره بنفسه ويختار نوع النظام الذي يتناسب وتضحياته الغالية  ص“345.بما يعني استعدادهم للتخلي عن النظام الجمهوري يذكرذلك موقف المشائخ الذين ذهبوا إلى السعودية من أمثال سنان أبو لحوم والقوسي وطالبوا بدولة إسلامية وليس جمهورية ،كل هذه المواقف لا تجد من الارياني إزاءها سوى قدر قليل من العتب ،مع التذكير بأدوارهم الوطنية ،وتضحياتهم ،ونبل مقصدهم ،وانهم اتخذوا تلك المواقف بسبب اجراءات السلال والعمري ضدهم!انظر ص « 344 - 347».بل إن محسن العيني و”الاستاذ محمد أحمد نعمان حين ذهبا إلى الارياني في مستشفى المواساة بالسكندية ،وعرضا عليه فكرة التفاهم مع الملكيين “للخلاص من الحرب ومن تقاسم سعودي مصري للنفوذ في اليمن “لم يجد إزاء مقترحهما سوى الاستغراب والرفض دون إدانة مثل هذا الطرح ،الذي حين اقترب منه المصريون في اتفاقية جدة ،وهم معذورون بسبب كثرة الشهداء والخسائر المادية التي تكبلوها ،مع ذلك كان القاضي قاسياً معهم ،ورحيما مع المشايخ ومع محسن العيني ،بل ومتفهما لاسباب طرحهم ،وإن كان متمسكا بالنظام الجمهوري !وحين سافر محمد النعمان إلى السعودية من أجل اقناع المشائخ بتعديل موقفهم الذي أعلنوه ودعوا فيه إلى دولة اسلامية ليست جمهورية “وقد سافر إلى السعودية عن طريق اسمرة ،وسمعنا فيما بعد أنه بعد وصوله إلى هناك تأثر بالموقف وبدلاً من أن يقنع المشائخ أقنعوه بتوقيع الاتفاقية التي وقعوها  ص“360.مع أن موقف النعمان والعيني الذي اعلناه للإرياني حين زاراه في مستشفى المواساة كان متسقا مع الاتفاقية التي وقعها المشائخ في السعودية ،فعن أي اقناع يتحدث الارياني !يعذر المشائخ في تصرفهم وتخليهم عن النظام الجمهوري ،لكنه لا يعذر مصر إذا فكرت بمصالحها القومية !فالسعودية استغلت ظروف المشائخ ،لكنهم عنده من “الجمهوريين المخلصيين ،ولكنهم لم يجدوا أمامهم وهم يطاردون بالجنود من قبل السلال والعمري ليساقوا إلى السجون الاّ أن يلجأوا إلى السعودية ،فاستغلت هذه ظروفهم وكان البيان الذي أذيع” ص361.
عن القصيبي :
يصف الإرياني القصيبي بأنه “عالم سعودي من القصيم ،وهو غير راض عن آل سعود ،كما أنه غير راض عن الرئيس عبدالناصر وتدخل ال ج.ع.م.في اليمن ص“369 - 370،والحقيقة أن القصيبي كان محميا ببعض أمراء آل سعود ،والا لكانت السعودية قد اختطفته وأعادته إلى السعودية.
اليمنيون وعواطف اللقاء :
في مؤتمر حرض تفاجأ السعوديون والبريطانيون والامريكيون حتى شاهدوا لقاء اليمنيين في حرض في أول يوم للّقاء بتاريخ 23/ 11/ 1965م وبعد ثلاث سنوات من الحرب والدماء فإذا باليمنيين ملكيين وجمهوريين يتعانقون بحرارة بكى له كثير من المراسلين الأجانب ، ص”415.ولهذا فقد تنبه السعوديون لخطورة أن تزول أسباب الصراع بين الطرفين ،حتى أن الجمهوريين كانوا يسمون الملكيين بـ”الطرف الآخر”بدلا عن مصطلح “الملكيين”فعمل السعوديون على الفصل بين الطرفين في المخيم بأسلاك شائكة بعد أن كانت الخيام متداخلة دون فاصل !يقول الارياني “والحقيقة أنّا ،وأنا أتحدث عن نفسي حينما كنّا نلتقي كنا نتعانق بحرارة صادقة ،فنحن في حقيقة الحال إخوة وفيهم لنا أصدقاء وأعزاء كالسيد أحمد الشامي رفيق سجن حجةلا يستطيع الانسان أن يضمر له عداء أو موجدة” ص415.وهي مشاعر أكثر المجتمعين في حرض ،وهي سمة تميز لقاءات اليمنيين في المؤتمرات التي يعقدونها بعد كل صراع .. أثناء الحوار في حرض لاحظ الارياني أن تصرفات الوفد الملكي كان يتعمد إفشال المؤتمر رغم أن قناعتهم مع نجاحه ،لكن الملك فيصل كان يوجههم لعرقلة أي نجاح ،في حين كان الطرف الجمهوري غير مسير من المصريين فالمصريون كانت لديهم رغبة في المصالحة والخروج من اليمن بقدر من الكاسب أقلها الحفاظ على النظام الجمهوري ،وعدم عودة بيت حميد الدين للحكم ،والسعوديين كانت تنفذ مخطط إغراق واستنزاف مصر في اليمن ،وصولا إلى هزيمتها في 5 حزيران 67م.
اعتقال الحكومة اليمنية في القاهرة :
بحجة أن هناك مخططا استهدف السلال ،طلب المصريون وفدا على رأسهم القاضي الارياني عضو المجلس الجمهوري والاستاذ أحمد محمد نعمان ،وعضو المجلس الجمهوري ،وحسن العمري رئيس الوزراء ،وعبد السلام صبرة نائب رئيس الوزراء ،وعدد من الوزراء والعسكريين ،ثم تم اعتقالهم بعد لقاء شمس بدران بهم ،وهو اللقاء الذي حضره العمري ورفض حضوره الارياني والنعمان ،وقد تم منع الارياني من السفر ،وكذلك عبدالسلام صبره وآخرون ،وسجن النعمان والعمري وآخرون
“وكانوا يجرون لكل واحد من المحتجزين “مرتبا يتفق مع منصبه الذي كان يشغله. وقد كان يجري لي ثلاثمائة جنيه مصري وكان يمكنني بهذا المبلغ وبما يأتيني من اليمن أن أجد شيئا من الراحة وخلو البال من مشاكل المسئولية ،ولكن أنى ذلك وقد كنت اعتبر نفسي مسئولا عن رفع ما حل بإخواني من ظلم وضيم ...”534ص .ويحمل الارياني اعتقال الحكومة اليمنية بمصر واحتجاز بعضهم إلى قرارات المشير عبد الحكيم عامر ،فهو المسئول عن هذا الموضوع ،لهذا فلقد كانت رسائل الارياني توجه إلى المشير في معظمها بغرض التماس إطلاق سراح المعتقلين ،لكن المشير لم يلتفت إلى هذه الرسائل والمراجعات .
محاكمة هادي عيسى والرعيني:
شكلت محكمة برئاسة الأهنومي وعضوية الكهالي والخطري “ليقضوا في الدماء والأعراض ،وهم لا يتمتعون بشيء من مؤهلات المنصب الذي يقضي بالإعدام والحبس “544ص.والسؤال هل كان هادي عيسى يتمتع بمؤهلات حين كان يقضي بدماء من اعدمهم بحجة أنهم مع الامام البدر ؟وقد أرسل الارياني برسالة للمشير عامر بتاريخ 21/ 10/ 1966م يطالب فيها بمحكمة محايدة ومن النزيهين ،لكنهم تفاجوا بخبر إعدام العميد الرعيني والعميد هادي عيسى وغيرهم “من المحكمة التي يرأسها الأهنومي مصدقاً من الرئيس السلال ...وكان محمد الرعيني يختلف كثيرا عن هادي عيسى ،فقد كان من ضباط الثورة المعتدلين ،اشترك في عدة معارك للدفاع عن الثورة ولم يؤخذ عنه أي تطرف في إجراءاته كما كان الحال بالنسبة لهادي عيسى ولهذا فقد تأثرنا لإعدامه “545ص.مما جعل الارياني يكتب رسالة للمشير عامر عكس فيها هذا التأثر .. ما جاء في هذه الرسالة “أن الرعيني وإخوانه قد حوكموا بضع ساعات ثم اعدموا فور النطق بالحكم .ومن الذي حاكمهم ؟لقد حاكمهم خصومهم ومنافسوهم الأهنومي والخطري والكهالي ...والذي يرى ما نشر في الصحف عن المحاكمة والتهم التي وجهت إليهم يرى أن هادي عيسى ،كما قيل قد شهد على الأهجري ،والأهجري شهد على عيسى ،ووهاس أدان الرعيني ،وأن ذنب علي محسن هارون الذي قتل الإمام أحمد أباه أنه وجد في بيته سلاحا وبازوكا “ثم يشير في رسالته إلى وجود خصومة شخصية بين الأهنومي وهادي عيسى تسقط عن الأهنومي النزاهة في الحكم “والذي يرى ما نشرته الصحف يرى أنهم قالوا إن هادي عيسى في يوم من الأيام استدعى أحد الوزراء وقابله بالصفعات والسجن .ولكنهم لم يقولوا أن هذا الوزير المصفوع لم يكن سوى محمد الأهنومي رئيس المحكمة ،وقالوا إنهم تآمرواعلى حياة الأهنومي والخطري والسلامي .وهم رئيس المحكمة وأعضاء المحكمة والمدعي العام ،فلماذ إذا جعلتم الخصم حكما .”547ص وينفي الارياني إمكانية أن يتعامل هادي عيسى مع السعودية بحجة أن يده ملطخة بدماء الملكيين ،وكأن السعودية حريصة على دماء الملكيين !
مشاعر متناقضة تجاه عبدالناصر:
عند هزيمة 5 حزيران 67م القى عبدالناصر خطاب التنحي وحمل نفسه المسئولية ،”وألقى خطابه المعروف والذي اعترف فيه بالهزيمة ،وحمّل الروس بعض التبعية ،وتحمل المسئولية وحده بشجاعة ،وأعلن الاستقالة في النهاية ،ولم نكن نتوقع أن البيان سينتهي بإعلان الاستقالة ،وكان بجانبه على شاشة التلفزيون أحمد فراج أحد المذيعين الذي انفجر باكيا .ووجدت أني أنا الآخر أشعر بحاجتي إلى البكاء على مصير الأمة العربية المذل .وتناسيت في تلك اللحظات كل الآلام والإساءات ،ولم أذكر الاّ حقيقة واحدة هي أن إذلال هذا الرجل إذلال للأمة العربية كلها .فهو الزعيم العربي الوحيد الذي رفع من شأنها وأشعرها بكرامتها !إذا فليغفر الله له ما اقترفه في حقنا .ولكن كيف بما اقترفه في حق الأمة التي آمنت بزعامته فساقها بالسياسة الرعناء إلى هزيمة مهينة”568ص.
ثم يشير إلى قيام مظاهرات في جميع الأقطار العربية عدا السعودية ،تناشد عبد الناصر بالبقاء في موقعه .”وتبين أن قرار التنحي قد هز ضمير الأمة العربية هزا عنيفا من تعلقها بعبد الناصر إلى حد يتسم بالهوس والجنون حينما انتحر من انتحر وتردى من أعلى البنايات من تردى .”ص568.
ينقل الارياني ما جاء على لسان بعض أعضاء الوفد اليمني الذي جاء من صنعاء إلى القاهرة بعد هزيمة 67م وطالبوا الرئيس ناصر بالابقاء على المعتقلين في السجون ،وعدم إطلاق سراحهم فيقول “ولكن الرئيس عبد الناصر قد طمأن الوفد بأنه لا ينوي الإفراج عن المساجين ،وقد جاء على لسانه كما سمعنا من بعض أعضاء الوفد كلاما كثيرا يعطي السامع له فكرة تقول إن اهتمام عبد الناصر ببقاء الإخوة في السجن أكثر من اهتمامه بمصير سيناء واحتلال إسرائيل للضفة الشرقية لقناة السويس ص“572.لكن في لقاء عبد الناصر معهم بعد إطلاق سراحهم ما يؤكد أن ملف اعتقالهم كان ضمن نفوذ عبد الحكيم عامر ،وأن رسائلهم وهم في السجن لم تكن تصل إلى عبد الناصر ،وأما عن هذا العضو في الوفد اليمني ،والذي أخبرهم  باهتمام عبدالناصر ببقائهم في السجن ،فهو يتناقض مع المنطق ،ناهيك عن اولويات مصر آنذاك ،بل يتناقض مع إطلاق سراحهم بعد ذلك !
موقف النعمان الابن من الجمهورية :
يرسل محمد أحمد نعمان برسالة من لبنان إلى القاضي الارياني ،ينصحه فيها بعدم جدوى كتابة الرسائل إلى جمال عبدالناصر من أجل إطلاق سراح المعتقلين ،ثم يحدد رؤيته من النظام الجمهوري فيقول “إن النظام الجمهوري في بلادنا عطاء متفضل .صحيح أننا نريده ولكنا لم نصنعه .نعم لقد قبله تذوقنا واستساغته أمعاؤنا ،ولكن هل هذا يكفي لكي ننزع عن الصانع الحقيقي صفة الصانع ونضع انفسنا موضعه ص“579.في إشارة إلى أن صانع الجمهورية في اليمن هم المصريون ،وليس اليمنيين ،وهو قد سبق وأن أرسل برسائل قبل وبعد  هذه بخصوص الاتفاق مع الملكيين على دولة اسلامية في اليمن بدون التمسك بالجمهورية ،وهو موقفه إلى جوار محسن العيني ،ومحمد الفسيل ،وسنان أبو لحوم ،والقوسي ،والقوى الثالثة ... الارياني رد على رسالة الاستاذ محمد نعمان برسالة مطولة جاء فيها “إن الجمهورية من صنع يمني وإذا كان اليمنيون قد اتكلوا في حماياتها على أيد حسبوها أمينة فلأن قوى أجنبية قد دخلت في الميدان لتحارب الجمهورية وتبغي القضاء عليها ،وأمّا السكوت فكيف نسكت وإخواننا يعيشون في زنزانات مطلمة ينتظرون منّا أن نفعل شيئا من أجلهم فتعين علينا أن نبذل كل ما نستطيعه في سبيل تخليصهم من حبسهم المظلم ص“580.وبعد إطلاق سراحهم عادوا إلى اليمن مع من كانوا مقيمين جبريا في مصر ،وقاموا بالترتيب مع الشيخ عبدالله الأحمروقوى  مؤتمر خمر ،للقيام بانقلاب 5 نوفمبر 67م وقد فهم السلال هو وجزيلان نيتهم بالانقلاب فغادرا إلى مصر ،وبعدها تم إعلان بيان الانقلاب على عكس ما يقوله الارياني من أنهم لم ينووا الانقلاب ،وأن غياب السلال ،وعدم رغبته بالعودة إلى اليمن خوفا من الأخطار التي تواجه الجمهورية هو الذي دفعهم لإعلان الحركة التي اسموها بـ”حركة 5 نوفمبر التصحيحية “ص586.
لقد كانت قوى خمر تربط التدخل السعودي بالتدخل المصري ،وحين انسحب المصريون من اليمن “ضاعفت السعودية مساعداتها العسكرية للملكيين وأمدتهم بالمدفعية الطويلة المدى وبالمدرعات والمرتزقة الأجانب وحوصرت صنعاء سبعين يوما ،ولم تقدم مصر أي عون بل كانت نظرتها إلى الحكومة التي صمدت للحصار وحافظت على النظام الجمهوري نظرتها إلى دولة إذا لم تكن عدوة فليست بصديقة ص“588.لقد كانت مصر ملتزمة باتفاقية الخرطوم التي تحضر عليها تقديم أي مساعدة عسكرية وتلزمها بالانسحاب ،ومع ذلك أرسلت مصر بذخيرة للبنادق التي يستخدمها اليمنيون ،وقامت بشرائها من البدو في سيناء ،وإرسالها عبر باخرة تجارية داخل علب المانجو ،وحين صمدت صنعاء طيلة حصار السبعين يوما ،كانت مشاعر الفرح واضحة لدى عبدالناصر واضحة كما دونتها الكثير من مذكراتهم !.
حين غادر وفد الخرطوم إلى مصر ليعمل على إطلاق سراح المسجونين ،والمقيمين جبريا ،وبعد أن شاهدوا في اليمن كيف قامت المظاهرات ،التي ينسبها الشيخ الاحمر وسنان والارياني ،والعيني وآخرون في مذكراتهم إلى جنود المظلات والصاعقة ،وكيف قتلوا ما يزيد على ثلاثين مصريا ما بين مدني وعسكري –قال لهم محمد أحمد محجوب “إني لأعجب لأعصاب وصبر المصريين .وأقسم لو كنت أنا في محل القائد المصري حينما تعرض جنوده للذبح في الشوارع لملأت الميدان من جثث اليمنيين.فقلنا له لقد لطف الله تعالى فلم تكن أنت القائد “وفي هذا الرد من برود الأعصاب وعدم الاهتمام بالقتلى من المصريين ما يعكس ضغينة الارياني والعمري والنعمان تجاه المصريين ،وما يجعل هذه المذبحة غامضة حتى الآن فالكتابة عنها من طرف النوفمبريين فقط !..وعند التفاهم مع السلال على العودة إلى صنعاء ،اتصل “الشيخ سنان أبو لحوم يقترح قبول تنازلات بما في ذلك الموافقة على الدولة ،وقبل ذلك كان قد اتصل الاستاذ محسن العيني والاستاذ محمد بن أحمد نعمان يقترحان التفاهم مع الملكيين وتعديل النظام إلى دولة يمنية ص“607.أي التخلي عن النظام الجمهوري “مع تأسيس مجلس قيادة يشارك فيه بعض الأمراء واسناد رئاسة الوزراء إلى شخصية مقبولة من الطرفين كالسيد علي بن إسماعيل المؤيد ،وقد رفضت الخوض في الفكرة وقلت لهم إن مجالسة الملكيين في بيروت قد أثرت عليكم ص“607.
وفد مفاوضات استقلال الجنوب :
يصف الارياني موقف الانجليز من جبهة التحرير ،ولرفضهم للتفاوض معها على منح الجنوب الاستقلال بسبب موالاتهم لمصر الموجهة لهم “كان الكفاح المسلح والخسائر التي مني بها الاستعمار الانجليزي قد اقنعه أن السلامة في الانسحاب وإنهاء الاستعمار وكان يفضل أن تكون المحادثات مع الجبهة القومية لأنها لا تعطي مصر الولاء الذي يجعل لها نفوذا في تسيير الأمور في المنطقة ص“617.. وقبل عودة الارياني إلى اليمن بأيام جاءه “عبدالفتاح اسماعيل الأمين العام للجبهة القومية فيما بعد ومعه محمد البيشي وفيصل الشعبي .وتحدثنا طويلا حول ما ينتظر الساحة اليمنية من استقلال الجنوب واحتمال دخول الشمال في نكسة .وطرحت الوحدة بين الشطرين كواجب فوري ،وكان هذا هو رأيهم مؤكدين أن أول قرار سيصدر من حكومة الاستقلال هو قرار الوحدة مع الشمال .فقلت لهم إن هذا إذا حصل سيشد من عضد الجمهورية في الشمال ،ولكن معلوماتي تقول أن كثيرين من مناضلي الجنوب لا يريدون الوحدة الفورية ،وقد يكون على رأس من هذا رأيه الأخ قحطان الشعبي والأخ فيصل .وقد أبدى الأخوة الجنوبيون التصميم على إعلان الوحدة الفورية ،فقلنا على بركة الله ونحن في الانتظار .ص”618.
*مذكرات الرئيس القاضي عبد الرحمن بن يحيى الإرياني –الجزء الأول 1910 1962-م-الطبعة الأولى –مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب-2013م،و يقع الجزء الأول منه في 591 صفحة من القطع الكبير.

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
2 + 1 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.