السلام في اليمن وحذاء السيّد المسيح

 

كان السيّد المسيح يعظ جمعاً من حوارييه. كانوا جميعهم في خشوع ينتحبون. التفت فلم يجد حذاءه، فقال لهم: «كلكم يبكي؛ فمن سرق حذائي؟!».

 

الحالة اليمنية أكثر مأساوية من سرقة حذاء المسيح، وانتحاب مريديه. في لقاء مع المبعوث الأممي الجديد «مارتن جريفث» أشار إلى أن كل الأطراف التي التقى بها تؤكد على أهمية إحلال السلام في اليمن. وبعد لقائه بالأمين العام للأمم المتحدة، أكد بأن موقف الأمين العام، وموقف الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن موحد إزاء إحلال السلام في اليمن.

 

في المنطقة أشار أنه التقى السعوديين و«الشرعية» و«أنصار الله»، وأنهم أيضاً مع السلام. معروف أيضاً أن المبعوث الأممي التقى أطرافاً يمنية أخرى مرحبة هي بدورها بفكرة السلام.

 

الأطراف الدولية الفاعلة، والطرف الأساس في «التحالف»، وأطراف الحرب في اليمن راغبة في السلام والعودة للحوار، فأين المشكلة إذن؟! ما هي العوائق إزاء قضية وقف الحرب، والعودة للحوار، وخيار السلام؟

 

نعرف أنَّ ما يكتب في وسائل الإعلام، ووسائل الاتصال الاجتماعي، وتصريحات قادة الأحزاب، وصناع الحرب الحقيقيين، والزعماء السياسيين لا يعبر عن الحقيقة غالباً. الحديث -الفائض عن الحاجة- عن السلام لا يعني السلام غالباً. ربما كانت الأطراف الأكثر حماساً للحرب، والمهووسة بأوهام الحسم العسكري هي الأكثر حديثاً وتبشيراً بالسلام، والأكثر تفاؤلاً باقترابه.

 

في حقيقة الأمر، الشعب اليمني - غالبيته - هو المتعطش للسلام، والتواق لإنتهاء الحرب. الشعب الذي تُدمِّر كيانَهُ الحربُ الداخلية والخارجية يُشرَّد فيه أكثر من ثلاثة ملايين، وتصيب الكوليرا أكثر من مليون، ويطال الفقر الملايين. يجند فيه الأطفال، ويحرمون من الدراسة والغذاء، وتُدمر بنيته التحتية، وكيانه الحضاري، وتتمزق وحدته الوطنية، ونسيجه المجتمعي، وتحكمه مليشيات مسلحة. يُعتقل منه الآلاف، وينتشر في وسطه العنف والاغتيالات والإرهاب. فاليمن يدمر كشعب، وكدولة، وكمجتمع، وكإنسان. الغالبية العظمى من فئات وشرائح الشعب اليمني - إن لم يكن كلها - ضد الحرب، ومع السلام، لكنها مقهورة بالحرب، ومحكومة بسلطان القوة.

 

تحديد أطراف الحرب، وإدراك أهدافها الحقيقية، وكشف طبيعة تحالفاتها ودعاواها السياسية والإعلامية، يساعد على القراءة الصائبة، ومعرفة أسباب استعصاء الوصول إلى حل سلمي وسياسي، ويجيب عن سؤال استمرار الحرب، وانتشار العنف والإرهاب، وتفشي الاغتيالات. فصالح و«أنصار الله» قادا انقلاباً ضد مخرجات الحوار، وضد مشروع الدستور، وضد حكومة الكفاءات والرئيس المنتخب. هذه هي الصورة الخارجية، وهي قراءة صائبة وصحيحة. ولكن الشيء الواقعي والأساس أن البلد كانت تجتاحها ثورة شعبية سلمية عارمة عمت اليمن: شمالاً، وجنوباً، وقُدِّمت فيها صيغة جديدة لنظام حكم بنهج وأسلوب مغاير ومختلف عما عرفته اليمن طوال تاريخها، شأن ثورات الربيع في المنطقة العربية كلها.لا تقبل السعودية بأي حكم في اليمن لا يتوافق مع سياساتها وخياراتها

 

اختلف الحاكمون بين قمع الثورة بالسلاح أو احتوائها. كان الاختلاف في الرؤية، وتقدير الموقف. اختار صالح و«المؤتمر الشعبي» القمع الدموي والعريان، بينما رأى محسن، ومعه «التجمع اليمني للإصلاح»، الاحتواء. وقفت دول الخليج، وكلها حريصة على عدم نجاح ثورة شعبية سلمية، إلى جانب فكرة الاحتواء؛ فَقُدمت مبادرة التعاون الخليجي لصالح الحكم، وإعادة إنتاجه، ومُنحَ النظام كله الحصانة، فأعُفي عن المساءلة، وتم التقاسم مجدداً.

 

أُذكِّر فقط أنه عقب ثورة السادس والعشرين من سبتمبر62، انقسم «مشايخ الضمان» بين ملكيين ومجمهرين. وعندما فشل قهر الثورة بالسلاح، تسلم الراية الجناح «المجمهر» من المشايخ، وعلى رأسهم الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر. وبمباركة سعودية، تم القيام بانقلاب 5 نوفمبر 67، وتحقيق المصالحة الوطنية، وتَسَيُّد الجناح «المجمهر»، ومعه الإسلام السياسي، وكل قوى الثورة المضادة.

 

وإذا كان الشيخ الأحمر رجل السعودية الأول، وزعيم الإسلام السياسي، فإن محسن هو رجل الشيخ وممثله في «مؤتمر الطائف»، وأحد الموقعين على وثيقة الدولة الإسلامية في الطائف 65، ومن نافلة القول الإشارة إلى أنه موالٍ للتيار الإسلامي.

 

جرى احتواء الثورة الشعبية السلمية، واستمرت الحرب في أكثر من منطقة، كما استمر الصراع بين أقطاب الحكم في رأس السلطة من حول الانفراد والاستئثار. كلا الطرفين نظر إلى الحوار نظرة تكتيكية، واستراحة محارب، وكلاهما أيضاً يؤمن أن السلاح هو أداة الحكم الوحيدة، ووسيلته المثلى، وأن الحوار ليس إلا ذر للرماد في العيون.

 

كان الخلاص من شبح ثورة «الربيع العربي» هدف عام ومشترك للجميع بما فيها دول الخليج والدول الكبرى، كما هو حال ثورات «الربيع العربي» التي شهدتها المنطقة العربية. توافق الطرفان على إفشال الحوار، ووأد الثورة الشعبية السلمية، وتقاتلا على الانفراد بالحكم والاستئثار بالسلطة، وكل منهما يستنجد بالقوى الإقليمية المُغَلِّبة هي الأخرى لمصالحها ضداً على مصالح الشعب اليمني، والتي ليست بالضرورة متطابقة مع أهداف حلفائها.

 

ذلكم ما يعيق الحل، ويطيل أمد الحرب. فـ«أنصار الله» يريدون التفرد، أو على الأقل في لحظات التواضع الشديد يرغبون في مشاركة شكلية للآخرين مع الاحتفاظ بالسلاح.

 

«الإصلاح» حليفٌ في الحرب وطرفٌ أساسي فيها، لكنه محاصر برفض الإمارات لمشاركته، وبشن الحرب عليه في الجنوب من قِبَلِها. والمؤتمر الشعبي - وقد أصبحوا الطرف الأضعف - يتبنون مطالب زعيمهم في نهج الحرب، وتشجيع الإمارات العربية على حضور أسرة صالح ومشاركتها.

 

الحرب، في بُعدها الأساس وجوهرها، حرب على الشعب، ضد أمنه، وسلامه واستقراره. ضد أهداف ومبادئ الثورة الشعبية السلمية، ومخرجات الحوار، ومشروع الدستور الجديد، وبناء الدولة المدنية الاتحادية الديمقراطية. كل هذه المبادئ والأهداف لا تريدها أطراف الحرب الداخلية، ولا القوى الإقليمية والدولية.

 

السعودية، وهذا معروف تاريخياً، لا تقبل بأي حكم في اليمن لا يتوافق مع سياساتها وخياراتها، وهي لن تقبل بأي وجود إيراني في اليمن، ولديها مطامعها في غير منطقة، كما أن لها خلافات، ولديها شكوك في حليفها «الإسلام السياسي».

 

أما الإمارات العربية المتحدة، فتريد بسط نفوذها على الجزر والموانئ، وهي تدعم جماعات الرئيس السابق ضداً على «التجمع اليمني للإصلاح»، ولا تقبل بالرئيس عبد ربه منصور هادي، ولا «الشرعية»، وتقوم بدعم أطراف في «الحراك الجنوبي» المسلح في مواجهة أطراف أخرى؛ وهكذا يسهم الجميع في فرض وإطالة أمد الحرب، وإحكام الحصار على تعز واليمن كلها.

 

إيران تريد فرض نفوذها وهيمنتها على المنطقة العربية، وبالأخص العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. الانفراد، والاستئثار، وامتلاك السلاح قاسم أعظم مشترك بين كل أطراف الحرب.

 

القوى الكبرى تقف إلى جانب بقاء النظام القديم، ولكنها ترى ضرورة القبول بحقوق الإنسان، وإعطاء هامش للحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، وضرورة القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تحد من تغول الفساد، وتحول دون قيام ثورات شعبية.

 

استعصاء الحسم العسكري، والعجز عن حل سياسي جلي لدى كل الأطراف، كما أن الرهان على حل سياسي سلمي متوافق عليه، في الوقت الراهن، ما يزال بعيداً. فالصراع في المنطقة العربية مترابط ومتداخل. حسم الصراع في العراق وسوريا، والتوافق السياسي في لبنان قد يفسح السبيل أمام احتمالات الحل، لكن العودة لما يشبه الحرب الباردة، واشتعال الاحتجاجات في فلسطين، والاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وقمع إسرائيل للاحتجاجات الفلسطينية السلمية، يعقد المشهد في المنطقة كلها، ويطيل أمد النزاع فيها. والأخطر من كل ذلك التوجهات الأمريكية الجديدة لترامب الجانحة للشعبوبة، وتشجيع النزاعات والتطرف.

 

المصدر : العربي

 

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
2 + 1 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.