هجرة الأفارقة إلى أحواش التعذيب

- سودانية تقول إن جنوداً يمنيين باعوها وآخرين لمهرب بـ 3 آلاف ريال سعودي
- في المخيم نحو 300 مهاجر فقط؛ 37 منهم نساء وأطفال، والبقية مشردون في شوارع المدينة
- 20% من النساء الواصلات إلى المخيم، منذ 2010، تعرضن للاغتصاب
- 24 امرأة وصلن، النصف الأول من مارس، إلى المخيم بينهن 5 تعرضن للاغتصاب

ما إن وصلتُ مديرية الزهرة، في طريقي من صنعاء إلى حرض، حتى بدأت أرى المهاجرين الأفارقة يسيرون على أقدامهم، قادمين من نقطة وصولهم على امتداد الساحل باتجاه مدينة حرض.
كانوا يتمايلون كأن عليهم أحمالا ثقيلة، وكان طول قاماتهم النحيلة يسهم في إبراز هذا التمايل. جماعات متفرقة على امتداد الطريق، في أيدي بعضهم قناني مياه بسعة أقصاها لتران. يسيرون متهالكي الخطى. تسرح أقدامهم على غير رغبة، كما لو أنها مجبرة على الانقياد لمصير مجهول.
حين وصلت المدينة؛ كانت مكتظة بالأثيوبيين وقليل من الصومال. أحسست أنني وصلت مدينة أفريقية، حين رأيتهم بتلك الكثافة. لكنني أدركت بعدها أن حرض مجردة من أي انتماء وهي تنهر الفقراء، أفارقة ويمنيين، وتطردهم بأشد الأساليب قسوة.
ذهبت لتناول العشاء، واخترت أن أجلس إلى إحدى الطاولات المرتصة أمام بوابة المطعم. كان الأثيوبيون يقفون على هيئة نصف دائرة ملتفة على الطاولات من جهة الشارع. "ادخل اتعشى داخل.. الاثيوبيين شيخطفوا الأكل من تجاهك". خاطبني أحد "المباشرين" في المطعم. التفتّ إليه؛ بما يشبه طلبا غير معلن كي يعيد ما قاله، لأني لم أستطع تصديقه لأول وهلة. كانت في يده عصا تتأهب للانقضاض على أيهم يهجم على مائدة أحد الزبائن، وكانوا يقفون متربصين ليستبقوا إلى ما يُترك من فتات.
ما إن يتوقف الزبون عن الأكل حتى تتطاير قطع "الروتي" ممزقة بين أيديهم، ومن أدرك منهم شطيرة لا يلحق أن يضعها في الإناء؛ إذ إن آخرين يكونون قد غسلوه بأصابعهم ولعقوا ما بقي عالقا بها بعد عراك الأيدي. يهجم جميعهم دفعة واحدة، ويدفعهم "حامي الزبائن" بعصاه التي لا تُفلت منهم اثنين أو ثلاثة.
يتدافعون في الهرب لمسافة غير بعيدة عن الطاولات ليعودوا للالتفاف حولها من جديد. لن يذهب أحدهم إلى مطعم آخر لأن أمامه ما يكفي لاستحالة التقاط شيء مما يترك زبائنه.
كر وفر منذ أن تفتح المطاعم أبوابها حتى يطرح "حامي الزبائن" عصاه منهكا من المطاردة عند الإغلاق.
وددت التحدث إليهم وسؤالهم عما يبقيهم في هذه الظروف. ولأنهم لا يتحدثون العربية، سألت أحدهم بإنجليزية ضعيفة عما إذا كان يتحدثها فأجاب بالنفي؛ ربما تجنب عناء أن يفهم إنجليزيتي وعناءاته لا تحتمل المزيد.
استدرك الموقف أحد موظفي المطعم وأخبرني أن أحد هؤلاء الأثيوبيين يتحدث العربية وأكد معرفته به بعلاقتهما اليومية: "كل يوم نتكارد (نتلاحق) احنا واياه، واليوم مدري ماله ما جاء. بايجي الصبح وباحجزه هنا لما تجئ".
صبيحة اليوم التالي، استقبلني موظف المطعم، مشيرا إلى شاب شديد السمرة، ليس بطول الأفارقة المعتاد: "هذا هو قد حجزته من الصبح". ما من داع لإبداء أسفي إزاء تأخير الرجل؛ فهو لأول مرة يجلس في مقدمة المطعم بلا قلق من خيزرانة "المباشر".
لم يكن يتحدث العربية جيداً، وكان علي أن أحتمل عناء فهمه. قال محمد إنه لم يعد قادرا على العودة إلى بلده: "ما في فلوس نرجع أثيوبيا". هاجر طلبا لسبل العيش، ودفع ما كان يملكه إيجار القارب، الذي أوصله إلى قبالة الساحل اليمني، حيث كان عليه أن يسبح إلى الشاطئ؛ إذ يخشى ملاك القوارب الأثيوبية أن يتم حجزها من قبل قوات خفر السواحل اليمنية.
تجاوز الرجل محنتي البحر وعصابات الأحواش، واستطاع التهرب إلى الأراضي السعودية، غير أنه، قبل أن يصل وجهته، قبض عليه من قبل الأمن السعودي، ثم رُحّل إلى حرض التي مازال ينتظر فيها، بلا أمل، عودته إلى أثيوبيا: "نريد نرجع أثيوبيا.. لكن ما في معنا فلوس". لا يملك محمد، ونحو 3000 أفريقي آخرين في حرض، إيجار العودة إلى بلدهم التي يفصلهم عنها بحر لا يمكن خوضه سباحة. تذكرت السياب وفقر الغريب المشوّق لوطنه:
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن سفار..
أو ليت أن الأرض كالأفق العريض بلا بحار..
مازلت أنقص يا نقود، بكن من مدد اغترابي..
ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي وبابي..
في الضفة الأخرى هناك فحدثيني يانقود..
متى أعود، متى أعود؟
يحلمون بالعودة بلا تفاؤل، ولم يتحلقوا حولنا، وأنا أتحدث إلى محمد، إلا لأن أحد مباشري المطعم كذب عليهم بأني مندوب منظمة ستوزع عليهم الخبز. أما موضوع تهجيرهم إلى بلدانهم فقد تناسوه أنفسهم ورضخوا لقدر يظنونه كتب عليهم أن يشقوا ما تبقى من أعمارهم في هذا الجحيم. "في خُبُز؟.. خُبُز؟"، هذا ما يسألونك عنه، وما يعرفونه من مفردات العربية.
لم يحدثوني عن مشاكل ترحيلهم، أو عما تعرض له بعضهم في أحواش التعذيب. وحين سألتهم، كشف أحدهم عن ساعد بجروح حية، عرفت من محمد ما يعنيه رطان الرجل: في اليوم السابق حاول أصحاب أحواش أن يأخذوه من طرف المدينة، لكنه أفلت من بين أيديهم بدفاع المستميت. دفع فعله الآخرين، وعلى السؤال نفسه، قدم كل منهم إجابته: كشفوا عن ندوب وجروح متفرقة على أجسادهم. تزاحمت الجروح وتداخلت الأذرع والسيقان أمام الكاميرا..
مخيم المهاجرين
يُستقبل المهاجرون الأفارقة ممن تم ترحيلهم من الأراضي السعودية، أو تم إنقاذهم من أحواش التعذيب، في مخيم تابع لمنظمة الهجرة الدولية– حرض. قبل أن تزور المخيم عليك زيارة ليليان أمبوسو، مديرة المنظمة هناك، لأخذ موافقتها.
شارع فرعي قصير يصلك ببوابة سور مكتب المنظمة. وهناك فقط تعرف أن إجراءات أمنية تتخذ في مدينة حرض؛ حارس على البوابة بزي خاص يصحبك، بعد التأكد من هويتك، إلى مكتب حارس آخر يستأذن لدخولك بمهاتفة مدير مكتب أمبوسو. انتظرت، والزميل خالد مسعد، مراسل "الشارع" في حجة، الموافقة على الدخول. استقبلنا مترجم المنظمة، الذي نقل إلينا إجابات أمبوسو. قالت إن المنظمة متوقفة عن ترحيل المهاجرين منذ نهاية العام 2012 بسبب مشاكل في الميزانية. لكن المشكلة لا تتوقف عند الترحيل فقط: "المنظمة لا تستقبل حاليا في مخيماتها غير الحالات الأكثر احتياجا كالنساء والمرضى والأطفال". في مخيم المنظمة 9 أطفال فقط و43 طفلا أثيوبيا في مكتب حماية الطفولة بحرض، التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية.
توقفت المنظمة عن توزيع أرغفة الخبز على المهاجرين خارج المخيم؛ إذ أنها، بحسب أمبوسو، لا تستطيع، حالياً، توفير التغذية لغير القاطنين داخل المخيم. في حرض حوالى ثلاثة آلاف مهاجر أفريقي، منهم في المخيم نحو 300 مهاجر فقط؛ 37 منهم نساء وأطفال. والبقية مشردون في شوارع المدينة.
أبلغت أمبوسوا مترجما آخر للمنظمة استقبلنا في المخيم، ونقل إلينا مآسي قاطنيه. كيلومتر رملي باتجاه الغرب، من مدخل المدينة، يصلك بسور المخيم، الذي يستجير به بعض مهاجرين أسندوا خيامهم إليه من الخارج، طلبا لما يتركه لهم من تنطبق عليهم شروط دخوله من الطعام الذي لن تتذوقه: في كل صحن كتلة واحدة من الرز، وملعقة كبيرة من الفول المكثر ماؤه يدور حول الكتلة.
وصلنا المخيم، ورأينا في أحد مكاتبه أمنيين يستجوبون جماعة من الأثيوبيين، الذين تم تحريرهم، في اليوم السابق، بمداهمة نفذتها حملة أمنية لأحواش تعذيب. رفض أحد الأمنيين أن نصورهم، ووافق آخر يستجوب امرأتين على طاولة مقابلة.
"أربع نساء ممن وصلين أمس تعرضين للاغتصاب". قال عبد الكريم جميل، مترجم المنظمة. طلبت منه مقابلتهن، غير أنه أكد لي أن "الحماية الأمنية اللي استجوبوهن منعوهن من التحدث لأي مصدر".
أخذني عبد الكريم إلى مكتب صغير فيه سريران على كل منهما اثنان، وعلى أرضيته اثنان آخران. كان "عيادة لتقديم الإسعافات الأولية"، بحسب مها السيد، طبيبة المخيم، التي قالت إنها تستقبل نحو 70 حالة يومياً. "معظم الحالات قادمة من خارج المخيم"، يتصدر سوء التغذية أسباب الحالات المرضية. إلا أن هناك أسباب أخرى لحالات تعامل بحسب أوضاعها: "البسيطة هنا والحالات الحرجة، مثل اللي يرموها عصابات الأحواش لما تكون قدهي باتموت، نحولها مستشفى أطباء بلا حدود، والمستشفى العام بحرض".
تصل المخيم حالات فردية حرجة يتوفى بعضها جراء التعذيب التي تعرضت له في أحواش المهربين. حالات أخرى تصل المخيم جثث عليها أثار التعذيب، بعد أن يتم العثور عليها من قبل أحد المواطنين في مزرعة ما أو على جانب طريق.
بضع كونتينات وخيام متقابلة، ألواح خشبية عليها فرش أسفنجية على أرضية المخيم. نحو 10 نساء مستلقيات في ظل "طربال" ثبت بمسمار على جدار السور، كبرى الخيام تحوي عشرات الفرش المتناثرة وبضعة مرضى بسبب التعذيب، لا يلفت انتباههم أي غريب.
كونتينة ترتفع أسرتها أربعة طوابق مخصصة لرقود الحالات الحرجة، وكونتينات مخصصة للنساء.

يعذبون لإجبار أقربائهم على دفع فديات
يهاجر الأفريقيون طلبا لسبل عيش انقطعت في بلدانهم. ينزلونهم ملاك القوارب في البحر على بعد بضعة كيلومترات، هربا من قوات خفر السواحل، ويقطع المهاجرون المسافة المتبقية سباحة. يموت بعضهم غرقا، وتنتظر أحواش التعذيب من نجا.
في ضواحي حرض؛ هناك عشرات الأحواش لعصابات تهريب تنتظر المهاجرين في نقاط على امتداد الساحل، كما تختطفهم أيضا من ضواحي المدينة ومناطق أخرى. تقوم العصابات باحتجاز المهاجرين وتعذيبهم لابتزاز أقربائهم ممن يعملون داخل الأراضي السعودية، أو في بلدانهم. يجبر المحتجزون على الاتصال بأقربائهم طالبين منهم الاستجابة لمطالب الخاطفين، ودفع مبالغ مالية تتراوح بين 2000 و5000 ريال سعودي. إحدى الأفريقيات، داخل المخيم، أخبرتني أن أختها، المتواجدة في السعودية، دفعت 5500 ريال سعودي لجماعة المهربين هناك مقابل إطلاق سراحها من داخل حوش تعذيب في حرض. لعصابات التهريب أعضاء يعملون في السعودية لاستقبال مبالغ الفديات هناك.
معذبون يتحدثون عن مآسيهم
وصل تولدة ( 45 عاما) عن طريق البحر، لا يعرف نقطة وصوله على الساحل، لكن عصابات الأحواش يعرفونها، ومنها أخذوه مباشرة إلى حوش عُذب فيه 13 يوما. "بعد أن ضربوه وساءت حالته رموه في مزرعة، وشافه واحد يمني، وأخذه وجابه للمخيم"، قال المترجم الذي دعاهم لمقابلتنا. "تولدة" في المخيم منذ شهر، إلا أن يده التي انفصلت من الكتف جراء تعليقه في أحد أحواش التعذيب مازالت محتفظة برباطها، إضافة إلى أكثر من رباط على أضلاعه ويديه.
كانوا في حدود 60 شخصاً مع "تولدة" في ذات الحوش، لم ير أحدا منهم بعد أن أخرجه المهربون لسوء حالته، ويتوقع أن أصحابه لا يزالون في الحوش، الذي لا يعرف مكانه. قال أن أياً منهم لن ينجو إلا إذا دفع أقرباؤه الفديات، وهؤلاء "ربما يكونوا قد دخلوا السعودية". البقية سيظل المهربون يعذبونهم حتى يستجيب أقرباؤهم لدفع الفديات. حين سألت تولدة عما إذا أبلغ السلطات الأمنية أجاب بأنه لا يعرف أين يذهب. أجاب المترجم عن استنكاري من عدم إبلاغ السلطات الأمنية: "والله بلغنا.. بلغنا، وبالأخير ملينا لأنه يقلك: لما تجي لكم حالة زي كذه بلغوا.. وبعدين نبلغ ويقلك: نحنا ما نقدرش نسوي حاجة.. هذا مثلا ما يعرفش المكان وما يعرفش الشخص.. ولما يكون هكذا يقولوا: ما نقدرش". عادة لا يعرف المعذبون مكان الأحواش التي كانوا فيها، إذ أن عصابة التعذيب تعصب على أعينهم عند الاختطاف والإفراج.
لا تحقق السلطات الأمنية سوى مع الحالات التي تُحررها بمداهمات للأحواش، لكن كثيراً من الحالات تأتي فردية يخرجها المهربون إلى أماكن بعيدة من الأحواش، بعد أن تكون شارفت على الموت.. وهذه الحالات، بحسب المترجم، لا يتم التحقيق معها.
مزين عبده، قصة عذاب أخرى. هو، أيضاً، لا يعرف نقطة وصوله في الساحل سوى المهربين. وصل، و 76 شخصاً، على قارب واحد. عند وصولهم الساحل، سباحة؛ حاصرهم مجموعة مسلحين على متن دراجات نارية. انتقوا منهم عدة أشخاص لا يذكر مزين عددهم (قال أحدهم إن المهربين يأخذون من يجدوا معه أرقام تلفونات لأشخاص في السعودية يمكنهم الاتصال بهم لابتزازهم).
مزين، وأصحابه ممن وقع عليهم اختيار عصابات الأحواش، تم بيعهم من قبل أصحاب الدراجات النارية لآخرين حملوهم على سيارة شاص إلى حوش "أبو خالد"، الذي يحفظ مزين صفته أيضا: "يده مقطوعة". أما مهمة تعذيب مزين فتولاها: "عيسى عمر". هذا ما يعرفه عنهما مزين، وإن كانا اسمين وهميين، إلا أن هذا ما لا تسمعه منه السلطات الأمنية.
بعد أن انهار مزين، جراء 15 يوماً من التعذيب، ويأس معذبوه من نجاته، ويئسوا من الحصول على فدية يدفعها أحد أقربائه، رموه في مزرعة، حيث عثر عليه، قبل أسبوعين، أحد الأهالي وحمله إلى مخيم المنظمة.
أما "أبرهة"، الحبشي الذي وصل الساحل بغير فيل، فآثار الحروق على ظهره وعلامات الضرب تحكي وحشية بشعة. لم يكن "أبرهة" ينوي هدم الكعبة، إلا أن المهربين هدموا أسنانه "ضربوا لقفه بعصا". وأبرهة وحده من شكا بعبرة؛ عكس الآخرين الذين يتحدثون عن مآسيهم بحياد كما لو أن وجوههم صفائح معدنية لا تكشف عن شعور.
18 جثة في ثلاجة المستشفى بسبب التعذيب
"تولدة"، و"مزين"، و"أبرهة"، ومحمد طه، وغيرهم من الحالات التي وصلت فردية، أساء المهربون تقدير حالاتهم، وإلا ما كانوا ليفلتوهم إلا للموت، كآخرين توفوا بعد وصولهم المخيم، وتم نقلهم إلى ثلاجة مستشفى حرض التي تحتفظ في كل درج منها بخمسة إلى ستة منهم.
زرت المستشفى مع وحيد الذبحاني، الذي كان يعرف المسؤول الأمني، أمين الربيعي، وحارس الثلاجة، الذي أدخلني إليها وفتح أبوابها على مصراعيها ساخرا: "هيا اشبع".
انتظر وحيد خارجا؛ كونه لا يستطيع تحمل الرائحة المنبعثة: "ما شاقدر اتغدي بعدها".
في طفح نتانة مزكمة، التقطت بعض الصور للجثث المرتصة في ثلاجتين، واحدة بستة أدراج وأخرى بأربعة، مخصصتين لاتساع عشرة أفراد، إلا أن فيهما 54 جثة، 27 منها للمهاجرين. بينها، بحسب مسؤول أمني في المستشفى، 18 حالة وفاة سببها التعذيب في أحواش المهربين. آخرها "إثيوبية وصلت مقتولة عليها آثار تعذيب".
يراقبون صفقات بيعهم وشرائهم
يتذكر المهاجرون جيدا أثمانهم، ويراقبون صفقات بيعهم وشرائهم، كأضاح لا تملك حيلة. كلثومة، وهي من السودان، قالت إن العسكر السعوديين قبضوا عليها ومهاجرين آخرين، في أحد الجبال داخل الأراضي السعودية، ورحلوهم إلى الحدود. هناك حدثت مفاجأة: "الشرطة اليمنيين أخذونا.. ضرب.. ضرب.. ضرب.. يالله اطلعوا (على سياراتهم).. وباعونا لمحمد إبراهيم وأخذوا منه فلوس". أردت التحقق مما قالته كلثومة، فأكدت أنهم "كانوا لابسين زي شرطة.. أعطاهم محمد إبراهيم ثلاثة ألف سعودي". خرجت كلثومة بعد أن دفعت أختها التي تعمل في السعودية "5500 سعودي لجماعة المهرب هناك".
مسكي، أثيوبية، وصلت الشاطئ مع تسع نساء، و25 رجلا أثيوبيا. قال لهم أحد المهربين أنه سيوصلهم إلى السعودية بدون مقابل، لكنه باعهم لشخص آخر، شرح لهم الأمر حين أوصلهم الحوش: "أنا اشتريتكم وما باتخرجوا الا لما تدفعوا فلوس".
أما من تعرضن للاغتصاب فلم نستطع مقابلتهن إلا في زيارة ثانية، حيث اكتفين فقط بهز رؤوسهن وجلات، إذ أنهن، بحسب مسؤولة في المخيم، "لا يستطعن التحدث إليكم وحتى بعضهن لا ندري بحالاتهن إلا من خلال الكشف الطبي عند وصولهن بعد الإفراج". وأضافت شارحة ظروف الاغتصاب: "كثير من الحالات يدعيها شخص لتنظيف غرفة ويغلق عليها الباب". أخرى ضربت حتى الإغماء، وثالثة حالت رغبة المهرب دون دخولها الأراضي السعودية مع مجموعتها التي أخرها عنها في الطريق: "المهرب ضربها وسحبها على جنب". تركتنا سمية، أثناء مقابلتهن، حيث كان الباص ينتظرها خارج المخيم للعودة إلى بلدها (أثيوبيا) عن طريق سفارتها في صنعاء، دون أن ترفع شكوى ضد مغتصبها، أو تطمئن لعقاب سيناله.
بقيت في المخيم ميمي (أثيوبية) وسارة (صومالية)، وغيرهن، بجروح لم تجد حتى من يداريها. تعرض للاغتصاب، بحسب مترجم المنظمة: "20% من النساء الواصلات إلى المخيم منذ 2010". أما من تعرضن للاغتصاب بين النساء الواصلات إلى المخيم في النصف الأول لشهر مارس الماضي، بحسب مسؤولة فيه: "حالتين اغتصاب ضمن 9 نساء وصلين في 10/3، وحالتين اغتصاب ضمن 13 وصلين في 11/3، وحالة اغتصاب واحدة وصلت مع امرأة أخرى في 12/3".
القانون لا يحمي المعذبين
بين الانتهاكات المتعجرفة لعصابات الأحواش، والبطولات الزائفة للسلطات الأمنية، لا تُهدر حقوق المعذبين فحسب؛ وإنما تُعزز عدوانية العصابات. لم يُحاكم أحد من عصابات الأحواش، حتى ممن يتم القبض عليهم، إذ إن الإشكالية، بحسب مسؤول في المجلس المحلي بحرض، تكمن في القانون: "المشكلة في القانون إذا قبضوا على واحد من عصابات الأحواش متورط بتعذيب الأثيوبيين.. ما تتحولش القضية للنيابة إلا وقد عادوا إلى أثيوبيا، أو يكونوا حتى موجودين، وما فيش احد يرفع القضية". أما مسؤولو المنظمة فأجابوا بأنه "ليس في برنامج المنظمة تنصيب محام للدفاع عن حقوق المهاجرين.. المنظمة تقدم خدمات الترحيل فقط".
نفذت حملات أمنية لمداهمة أحواش المهربين، غير أن كثيرا من الحالات التي خرجت من أيدي العصابات بالفدية، أو لسوء حالاتها، تؤكد أن هناك مهاجرين مازالوا تحت التعذيب في أحواش العصابات. ناهيك عن أن اتهامات ترجع صلف عصابات الأحواش إلى مساندة مشايخ ومتنفذين.
- تقرير نشر أمس في صحيفة "الشارع".