من يقف وراء بلاطجة وسائل النقل (الأجرة) داخل العاصمة "تفاصيل"

يبحَثُ موظفو اليمن عن مرتباتهم المنقطعة منذ أكثر من عام جرّاء نقل البنك المركزي إلى عدَن من قبل المرتزقة، لكن اليمنيين كانوا يعولون على حكومة الإنقاذ بأن تقومَ بواجبها وضبط الإيرادات المتوفرة رغم قلّتها، لكنهم وجدوا أن عشرات المليارات تذهَبُ إلى المجهول رغم أنها كانت ستكفي لصرف المرتّبات أَوْ جزء منها.

 

وتجني المجالس المحلية المليارات من الريالات من الرسوم التي تفرضها على وسائل النقل، لكنها عهدت بالمهمة إلى مقاولين، الذين بدورهم يؤجّرون مجموعة من البلاطجة الذين لا يحملون سندات رسمية لتحصيل الرسوم، بل يحمل كُلّ واحد منهم “صميل” وكلما كَبُرَ حجمُه كلما مكّن صاحبه من فرض أكبر مبلغ ممكن من سائقي الأجرة (الباصات) في العاصمة والمحافظات ووسائل النقل الأخرى!!.

 

في صحيفة المسيرة اتصلنا بكل الأطراف المسؤولة عن هذه الفوضى، وأقر الجميع بالمشكلة، لكنه إقرار غير كافٍ لأن يقول المسؤول إن هناك المليارات التي تحصَّل من هذا القطاع ولا أحد يعرف مصيرها، فيما الملايين يتضوّرون جوعاً بدون مرتبات، ويكتفون بالقول إنها “مشكلة”.

 

كان الألم يعصر قلوبنا ونحن نستمع إلى ذلك الرجل الستيني الذي تبدو آثار التعب والإعياء واضحة على وجهه ولم تعد مهنةُ سائق باص “نقل متوسط على خط مذبح – الستين – شميلة والعكس” والذي يزاولها منذ الساعات الأولى للفجر وحتى ساعة متأخرة من الليل تليقُ برجل عجوز في هذا السن الذي ما كان له مزاولتها لولا الوضع الاقتصادي الذي يعيشه كُلّ سكان اليمن جرّاء العدوان والحصار.

 

قادني دافِعُ الفضول ومعي زميلي عبدالرحمن مطهّر الذي كان يركب بجواري على متن الباص المتجه من جولة عصر إلى منطقة مذبح ونحن نشاهد السائق العجوز يدفع مبلغ 100 ريال لأحد الأشخاص الواقفين بجوار الباص حاملاً بين يديه عصا غليظةً تسمى “الصميل”، بينما لم يكن راكباً داخل الباص سوى بضعة أشخاص ولم يكن ممتلئاً؛ بسبب ازدحام الباصات في نفس المكان.. وحين المبادرة بسؤاله حول المبلغ الذي دفعه للشخص الواقف في الخارج، فكانت الصدمة كبيرة ونحن نستمع إليه متحدثاً بنبرة تعلوها الحزن والأسى بأنه يدفع في اليوم ما يقارب الــ (1400) ريال كجبايات غير قانونية تؤخَذ بالقوة وبدون سندات رسمية على مدار اليوم لأشخاص يسمون أنفسهم مندوبين ينتشرون على امتداد خط (شميلة – الستين – مذبح) وهو الخط الذي يعمل عليه.

 

حاولنا التعاطف مع الرجل العجوز سائق الباص الذي طالبناه برفض منحها لهؤلاء الأشخاص والتعامل فقط عبر المندوبين الرسميين ممّن يحملون سندات رسمية لصالح الدولة، فكان الدهشة والاستغراب سيد الموقف حينها وهو يؤكد لنا بأنه إزاء هذا الرفض سيتلقى ضرباً مبرحاً من قبل تلك العصابات التي يقف خلفَها نافذٌ كبيرٌ يدعى “عاطف أَوْ عايض”، حسب ما يتذكر.

 

حاولنا مراراً وتكراراً التأكد من صحة كلام السائق، لعل المزايدة تكون حاضرة في ما يقوله، فما كان منه إلا أن طلب منا الاستمرارَ معه لمعرفة الحقيقة ونشاهد بأم أعيننا عدد أفراد العصابة الذي لا يكون بين الفرد منهم وآخر سوى بضعة أمتار، إلا أن موعد نزولنا من فوق الباص ووصولنا إلى المكان المطلوب حال دون الاستمرار في مواصلتنا رحلتنا مع السائق الحزين حتى نهايتها، ورغم ذلك نجزم يقيناً بأن ما ذكره هذا الرجل الذي تذهب ربع أَوْ ثلث أَوْ نصف أجرته طوال اليوم إلى جيوب عصابة تجرّدت من الأخلاق والإنْسَانية والوطنية، لا سيما في مثل هكذا ظروف صعبة يعيشها السائقون بعد أن وصلت أسعار المشتقات النفطية والغاز إلى أرقام خيالية.

 

جمعان يتوعّد “المتهبّشين” والنقل تؤكد أنهم تابعون لمجالسه

 

وتشهد أمانة العاصمة صنعاءُ انتشاراً واسعاً لعصابات راجلة على امتداد الشوارع والخطوط الرئيسية، قد تكون أشبه بعصابات قُطّاع الطرق المتواجدين في الخطوط الطويلة بين المحافظات والبلدان، إلا أن الفرق الشاسع بينهما هو أن ضحايا العصابة الأولى يقدرون بالمئات يومياً، فيما الأخرى يكون ضحاياها مجموعة بسيطة من المسافرين وعابري السبيل.

 

ولم يكن لهؤلاء الأشخاص أن يقوموا بممارسة أعمال التقطّع والنهب وجباية الأموال من سائقي وسائل النقل الخفيفة داخل العاصمة لولا تمتعهم بحصانة رسمية وحصولهم على مباركة السلطة المحلية ممثلةً بمكاتب النقل في تلك المديريات.

 

وحول هذا الموضوع أكد أمين محمد جمعان – أمين عام المجلس المحلي بأمانة العاصمة، أن هناك مشكلةً في الميدان على مستوى مديريات الأمانة بعد قيام السلطة المحلية ومكاتب النقل فيها بعمل تكليفات لأشخاص تحت مسمى “متعهدين” مهمتهم تحصيل الرسوم القانونية من سائقي الباصات عبر الفرزة أَوْ الخط، بموجب سندات رسمية مقابل التزام المتعهَد بدفع مبلغ مالي معيَّن نهاية العام.

 

وفي تصريح خاص لــ “المسيرة” أوضح جمعان، أن إصدار الكثير من هذه التكاليف هو ما يسبّب المشكلة ويدفع للخلط بين من يعمل بشكل رسمي ومن هو غير ذلك، مؤكداً وجود من أسماهم “المتهبّشين” الذي يعملون بطرق غير قانونية في جباية الأموال من سائقي الباصات لا يمثلون المجالس المحلية وليس ولوجودهم أية صفة قانونية.

 

وتعهّد أمينُ عام المجلس المحلي بالعاصمة، أن يعمل بشكل عاجل على حل هذه الإشكالية وإنهاء هذه الظاهرة من خلال تشكيل لجان ميدانية بالتعاون مع إدارة المرور ومكتب النقل بالأمانة وأمن أمانة العاصمة، داعياً كُلّ السائقين في أمانة العاصمة إلى عدم الرضوخ لتلك العصابات والتوجّه إلى قيادة أمانة العاصمة لتقديم شكاواهم ضد هؤلاء الأشخاص حتى تتسنى لها معرفتهم وتواجدهم قبل القبض عليهم ومحاسبتهم.

 

لكن هيئة النقل البرّي تحمِّل المجالس المحلية المسؤولية الكاملة عن ذلك، وتوضح أن مكاتبَ النقل في المديريات تابعة للمجالس المحلية وهي التي تقوم بالتعاقد مع المقاولين، فيما هؤلاء يؤجرون البلاطجة لتحصيل رسوم بدون سندات.

 

رسوم النقل إيرادات مهدرة

 

من جانبه، نفى العقيد عبدالله النويرة – مدير عام المرور بالعاصمة، بأن تكون لإدارته علاقة بموضوع جباية وتحصيل الأموال من سائقي مركبات النقل العامة بأي شكل من الأشكال، موضحاً أنّ شرطة المرور يقتصر عملها على الجانب التنظيمي والإشرافي فقط وذلك من خلال تنظيم حركة السير في الشوارع ومنع الازدحام بالخطوط الرئيسية.

 

ولفت العقيد النويرة في تصريح لصحيفة “المسيرة”، إلى أن عملية تحصيل الأموال من وسائل النقل، سواء الخفيفة والثقيلة والمتوسطة، هي موجودة في كُلّ دول العالم، باعتبار أن هذه الوسائل تستهلك أهم خدمة وهي الطرق، ويُفترض أن يتم تحصيل تلك الأموال المحددة والرمزية بشكل يومي وأسبوعي وشهري وسنوي بشكل قانوني، تسدد للخزينة العامة للدولة في سبيل صيانة الطرق وتنفيذ خدمات جديدة.

 

وفيما تعتبر الأموال المتحصّلة من قبل سائق النقل لصالح الدولة جزءً مهماً من الإيرادات العامة فإن هذه المبالغ في اليمن تعد إيراداتٍ مهدرةً، سواء في السنوات السابقة أَوْ الحالية، لا يصل منها إلى خزينة الدولة إلا الفُتات التي يتفضّل بها عتاولة الفساد من المقاولين والمتعهدين سنوياً، وتكاد تكون مبالغَ زهيدة ربما تمثل تحصيلَ يوم واحد، فيما بقية تلك الأموال تذهب لجيوب المنتفعين والمستفيدين والفاسدين.

 

كما أن المبالغَ التي يتم تحصيلها قانوناً من قبل السائقين، سواء داخل العاصمة أَوْ عند مداخلها أَوْ في الخطوط الطويلة مقابل صيانة الطرق، هي الأخرى لا يُعرَفُ عنها شيء، حيثُ لا تزال هناك الكثيرُ من الشوارع الرئيسية والفرعية داخل أمانة العاصمة تمتلئ بالحفر وانتهاء مادة الإسفلت منها منذ سنوات طويلة ولم تشهد أية معالجة أَوْ إصلاح، ولنا في طريق الحديدة صنعاء خير مثال على الإهمال والتسيُّب، خصوصاً وهذا الطريق الذي شُيِّدَ في عهد الإمام أحمد حميد الدين قبل حوالي 60 عاماً لم يطرأ عليه أي تغيير رغم انتهاء صلاحيته باستثناء الصيانات المؤقتة والإجراءات الترقيعية.

 

الدعوة إلى عقد اجتماع عاجل

 

إلى ذلك أكّد مصدرٌ محلي في مديرية السبعين، أن عملية تحصيل رسوم النقل من قبل سائقي النقل والمواصلات العامة تتم بصورة عشوائية ولا توجد لها أية ضوابط أَوْ معايير، موضحاً أن هذه الأموال التي تقوم بجبايتها عصابات تابعة لمتعهدين من قبل مكاتب النقل في مديريات أمانة العاصمة تعتبر مواداً مهدرة لا تستفيد منها الدولة.

 

وأشار المصدر لــ “المسيرة” إلى ضبط عصابة قبل فترة بمنطقة شميلة كانت تقومُ بأخذ جبايات بالقوة من سائقي خط صنعاء – ذمار – إب – تعز، بعد تلقّي العديد من الشكاوى ضدهم، منوّهاً أن العصابة المكونة من 25 شخصاً كانت تتناوَبُ على العمل خلال ثلاث فترات باليوم، وتقوم بأخذ مبلغ 6 آلاف ريال على سائقي الهيلوكس و5 آلاف ريال على سائق الباصات المتوسطة، حيث كانت تمارس هذا العمل بدون صفة قانونية أَوْ بتكليف من المديرية ومكتب النقل.

 

ودعا المصدر، قيادة أمانة العاصمة لعقد اجتماع عاجل يضم رؤساء وأمناء المجالس المحلية ومدراء مكاتب النقل في المديريات، لمناقشة هذه الظاهرة ووضع حدٍّ للتجاوزات التي يرتكبها المتعهدون وعصاباتهم ومحاسَبة كُلّ من تورط بجباية الأموال بصورة غير قانونية وإيجاد حل شامل لما من شأنه توريد الأموال المهدرة لخزينة الدولة، خصوصاً في الأوضاع الاقتصادية التي يمر بها الوطن.

 

تكليفُ المتعهدين مخالفة لنصوص القانون

 

بدوره، أكّد وليد الوادعي –رئيس هيئة النقل البري- أن الذي يحصُلُ الآن في الميدان هو نتيجةُ قيام مكاتب النقل بالمديريات بإيكال عملِها الأساسي في جباية رسوم النقل، لمتعهدين غير موظفين رسميين، عن طريق عمل عقود وتكاليف لهم، لجباية هذه الرسوم وتأجير الشوارع العامة وليس المواقف العامة، وذلك بالمخالفة للقانون وتعميم مجلس الوزراء رقم (1) لسنة 2004 م، والذي ينص على أن تمتنعَ المجالس المحلية والمركَزية من تكليف أشخاص من تحصيل أية موارد مالية، ما لم يكن موظفا رسميا ومستوفيا للشروط القانونية، وكذا بالمخالفة لتعميم معالي وزير المالية رقم (11) لسنة 2004 بشأن منع تكليف أشخاص لتحصيل أية موارد مالية ما لم يكونوا مستوفي الشروط القانونية.

 

وأوضح الوادعي في تصريح خاص لصحيفة “المسيرة”، أن المديريات تقوم بتوقيع هذه العقود بمبالغَ زهيدة جِدًّا لا تتعدى 100 ألف في أحسن الأحوال للخط الواحد، وهذا لا يساوى حتى 10% مما يتم تحصيله بالواقع على وسائل النقل داخل أمانة العاصمة، فيما أصبحت المواقف فاضية والجولات مزدحمة، ناهيك عن المظاهِر السيئة والعشوائية من قبل هذه المجاميع التابعة للمتعهدين، والبلطجة في جباية رسوم غير قانونية وبدون سندات رسمية.

 

وأشار رئيس هيئة النقل البري، إلى أن مكاتبَ النقل كإدارات عامة بالمحافظات تتبعُ المجالس المحلية مالياً وإدارياً وإشرافياً وأصبح عملها مقصوراً على قطاع النقل البري فقط دون بقية القطاعات الأخرى التابعة لوزارة النقل، واقتصر عملها على جباية الرسوم المحلية المنصوص عليها بقانون السلطة المحلية رقم (4) لسنة 2000 ولقرارِ رئيس مجلس الوزراء رقم (283) لسنة 2001 بشأن تحديد قيم أوعية الرسوم المحلية المنصوص عليها في المادة رقم (123) بالمادة رقم (15) والمادة رقم (19) الفقرة (ب)، أمّا صلتها بوزارة النقل فتقتصرُ على تكليف وزير النقل لمدير عام النقل بالمحافظة ورفع ترشيح لمجلس الوزراء باسمه لإصدار قرار مدير عام، أما مدراء مكاتب النقل بالمديريات فيتم تكليفهم مباشرةً من قبل المجالس المحلية، موضحاً أن هذا الوضعَ غيرُ الطبيعي وغير القانوني أدى إلى عشوائية العمل وتضارُبٍ في الاختصاصات والصلاحيات بين هذه المكاتب وبين الهيئة العامة للنقل البري وأدّى إلى ضياع إيرادات النقل وجبايتها بالمخالف لقانون النقل وقانون السلطة المحلية والقانون المالي للجمهورية.

 

ونوّه الوادعي، إلى أن المجالس المحلية تقومُ بعمل عقود مع متعهدين ليقوموا بعدها بجباية هذه الرسوم على جميع وسائل النقل وبجميع أحجامها وبمبالغ أكبر من الرسوم الرسمية وبسندات غير رسمية تتم طباعتها من قبل هذا المتعهد ويتم ختمها بختم مكتب النقل بالمديرية وتتم جبايتها في الطرق السريعة عبر استحداث نقاط بها، مؤكداً أن القانون ينُصُّ على أن هذه الرسوم تُجبَى في أماكن الانطلاق وليس في الطرق العامة ولصالح المديريات التي تنطلق منها وسائل النقل.

 المسيرة| هاني أحمد علي