تقرير لجنة الخبراء.. تمهيد نظري لمخطط تفتيت اليمن

تحليل : علي جاحز

"بعد قرابة ثلاث سنوات من النزاع ، يكاد اليمن كدولة أن يكون قد ولى عن الوجود، فبدلاً من دولة واحدة هناك دويلات متحاربة، وليس لدى أي من هذه الكيانات من الدعم السياسي أو القوة العسكرية ما يمكنه من إعادة توحيد البلد أو تحقيق نصر في الميدان”.

هكذا استهل ملخص تقرير الخبراء المعني بالوضع في اليمن، وهو استهلال يكفي لمعرفة اتجاه التقرير ومقاصده الخفية والأغراض التي ستبنى عليه، أو يجري البناء عليه لتنفيذها.

هذه الفقرة، التي ليست سوى خلاصة عامة تلاها تفصيل، قد يعتبرها البعض اعترافًا بفشل التحالف في إعادة الشرعية، وهو كذلك، لكنه في الواقع ليس مجرد اعتراف بريء، وإنما هو إعلان عن نجاح أحد أهداف العدوان غير المعلنة أو الحقيقية، وهو القضاء على وجود الدولة وتكريس الفوضى والتفتيت في صورة قوى متناحرة ضعيفة، لا تستطيع أن تعيد توحيد اليمن وإنقاذه، وهذه النتيجة ليست كما قد يفهم البعض مفاجئة بالنسبة للعدوان ومن يقف وراءه، ولم تحدث خارج ترتيباتهم، بل كان مخططًا لها، وهي أحد الأهداف.

لعل التأمل في لغة الملخص الرامية إلى تكريس فكرة أن الأطراف أو ما أسماها “الكيانات” ضعيفة، ولا تستطيع إعادة توحيد اليمن أو تحقيق النصر، يقود إلى وجود مغالطة لحقيقة واقعية، تكمن في عدم موضوعية تقييم قوة وأداء الأطراف، أو ما يسميها التقرير الدويلات، وخاصة أنه عمد إلى المقارنة الضمنية بين أداء وقوة وصمود القوى المناهضة للعدوان بقيادة أنصار الله، رغم الحصار والعزلة وتواضع الإمكانات العسكرية أمام أداء الأطراف الأخرى، التي تحارب بإمكانات تحالف يضم 17 دولة بكل ما لديه من قوة عسكرية ومال ودعم لوجستي وسياسي ودولي وإعلامي وغطاء أممي.

 

ملخص التقرير استهل جازمًا بهذا الحكم الجزافي دون أن يترك مساحة لفرضية تقول: ماذا لو كان أنصار الله وحلفاؤهم وسلطتهم في صنعاء يمتلكون ولو بعض الإمكانات والمساحة والمتنفس وغيرها من المقومات التي يمتلكها أنصار التحالف؟ هل ستكون النتيجة نفسها التي تحدث عنها التقرير؟

 

ويمكن أن يفهم من تمرير نتيجة كهذه أنها ترمي إلى تكريس صورة موحشة لمآلات وضع الدولة في اليمن، على اعتبار أنه واقع لا يمكن أن يحله اليمنيون، وإنما يحتاج لتدخل دولي وفرض حلول، تنطلق من ذات المآلات، وهي الحلول التفتيتية نفسها، التي فرضتها الحرب، وأنتجتها عنوة.

 

 

--

التمهيد لفرض حلول تفتيتية

الخبراء الذين أعدوا التقرير لم يكتفوا بتكريس هذه الخلاصة بعموميتها، بل أصروا أن يغرقوا في تفصيلات، يعتقدون أنها ستعزز ما يريدون تكريسه فيما يخص تحول اليمن إلى دويلات ضعيفة عاجزة عن إعادة دولة اليمن الموحدة، فكشفوا عن انحياز واضح للتحالف والأطراف الموالية له.

وفي سياق حديثهم عن الوضع في الشمال يقول التقرير “ففي الشمال يعمل الحوثيون من أجل تشديد قبضتهم على صنعاء وجزء كبير من المناطق المرتفعة، بعد معركة شوارع استمرت خمسة أيام في المدينة، انتهت بإعدام حليفهم السابق، وهو الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وفي الأسابيع التي عقبت ذلك سحق الحوثيون أنصار الرئيس السابق، واستمالوا الكثير …”.

قد يعتقد أمهر المحللين أن الخبراء حين كتبوا في نفس الفقرة “معركة شوارع” لم يقرءوها حين كتبوا “إعدام”، بينما في الواقع هم كتبوا “معركة” لأنها بالفعل كذلك، وكتبوا “إعدام” قاصدين تكريس فكرة التعاطف مع صالح وتحشيدًا للانتقام له، وهروبًا من الحقيقة التي تقول إنها معركة انتهت بهزيمة صالح ومقتله، وإنه هو من اختار المعركة.

لم يكن التقرير في هذه الجزئية يمتلك أدنى مقومات الحرفية في التوصيف للحدث، لا على اعتباره شرحًا تفصيليًّا للفقرة السابقة، ولا على اعتبارهم مراقبين يسردون واقعة عسكرية، فعلاوة على تصوير الحدث على أنه جريمة ضد أبرياء، وصف التقرير مقتل الرئيس السابق علي عبد الله صالح بأنه إعدام.

على ذات الوتيرة يأتي التقرير بالدليل الثاني على انتهاء وجود الدولة وضعف الدويلات الجديدة، وذلك بتوصيفه الوضع في الجنوب من خلال حديثه عن أن حكومة هادي أضعفتها انشقاقات المحافظين وانضمامهم للمجلس الانتقالي، الذي يدعو لدولة جنوبية مستقلة، وأيضًا وجود قوات تعمل بالوكالة لأطراف في التحالف (لم يسمها التقرير)، وأيضًا وجود القاعدة وداعش اللتين اعتبرهما طرفًا يقاتل أنصار الله والتحالف معًا.

مجرد عدم إشارة التقرير إلى الجهة التي أضعفت حكومة هادي، والتي تدعم الانتقالي والقوات التي تعمل بالوكالة والقاعدة وداعش يكشف بجلاء أن مهمة الخبراء وتقريرهم تكمن فقط في إعلان نتيجة ما أنجز من وجهة نظر أمريكا ومشروعها بعد ثلاث سنوات من العدوان على اليمن، وهي النتيجة التي تريد الولايات المتحدة والقوى العظمى في العالم أن تبني عليها تحركًا من نوع ما؛ لفرض حلول جاهزة تتركز في تفتيت اليمن وتقسيمه إلى دويلات، باعتبارها الحلول الوحيدة الممكنة.

كما أن الانتقال فورًا إلى استدعاء دور إيراني مزعوم في تزويد أنصار الله وقواتهم بالصواريخ والطائرات المسيرة والألغام البحرية يأتي لذات الغرض، كمحاولة لملء فراغ لا منطقية المساواة بين أطراف ضعيفة، رغم وقوف العالم وراءها عسكريًّا وماليًّا ولوجستيًّا وبين أطراف قوية في الشمال، رغم عزلتها والحصار المفروض عليها، وذلك عبر استدعاء إيران كمعادل للتحالف والدعم الدوليين، والهدف الهروب من الاعتراف بقوة أنصار الله وحلفائهم وقدرتهم على مقاومة كل ذلك التحالف العالمي، وهي محاولة لإثبات عدم وجود طرف قوي قادر على استعادة دولة اليمن الواحد؛ تمهيدًا لفرض حلول خارجية، تعيد الوصاية، وتبرر التفتيت تحت هذه اللافتة.

 

ولم يكن تعريج ملخص التقرير على الوضع الاقتصادي والإنساني إلا بمثابة بهارات، تعطي مذاقًا وجدانيًّا وبعدًا إنسانيًّا، تبرر الخطوات المراد اتخاذها في اتجاه فرض حلول بناء على الكارثة التي هي من صنع التحالف وبمباركة دولية وأممية.

--

تأهيل عائلة صالح ضمن أدوات فرض الحلول

صحيح أن ملخص التقرير بدا وكأنه لم يستند إلى أي منهجية تعطي انسجامًا واتساقًا في ترتيب الفقرات، التي تقفز من جزئية إلى أخرى، ثم تعود لتتناول بقية ما يخص الجزئية السابقة في موضع لاحق، غير أن ذلك كما يبدو له علاقة بغرض خفي، أساسه تكريس صورة الانهيار الكامل للدولة والوضع في اليمن، وتسليط الضوء على خيارات وعناصر يجري تأهيلها، ومن ثم تقديمها ضمن مكونات وعناصر الحلول المراد فرضها.

ومن تلك الأمثلة العودة في أكثر من موضع لطرح صالح و ثروته وأولاده وأسرته ومآلات إدارة الثروة بين أبنائه وتأثير مقتله على مسار المعركة، ضمن سياق الحديث عن الوضع الإنساني وجرائم الحرب وتدهور الوضع القانوني… الخ، وهي كما يبدو محاولة لتخصيب فكرة إخراج عائلة صالح من دائرة العقوبات الدولية؛ تمهيدًا لاستخدامهم كورقة خلال عملية فرض الحل، لتكون عائلة صالح بمثابة الطرف الذي سيلعب دور ممثل الشمال.

وعن الاتهامات التي أوردها ملخص التقرير مناصفة بين التحالف وأنصار الله وحلفهم، تحت مسمى “انتهاكات للقانون الدولي الإنساني”، سواء القصف وقتل المدنيين أو الاعتقالات والإخفاءات القسرية واستخدام التجويع كسلاح وعرقلة المساعدات، فإن المراد منها تثبيت التهمة على أنصار الله والقوات التي تواجه التحالف وأتباعه. أما اتهام التحالف فهو ثابت، ولن يضيف شيئًا إلى الصورة المراد تكريسها، إلا شيئًا واحدًا، وهو أن كل تلك الانتهاكات إنما هي عنف وعنف مضاد، وكأن الخبراء يريدون أن يقولوا إن السبيل والخلاص من ثنائية العنف لن يكونا إلا عبر حل يتم فرضه من طرف خارجي.

وهذا ليس مجرد كيدية بأنصار الله والأطراف المناهضة للعدوان بقدر ما هو ضمن سياق تشويه صورتهم، رغم أنهم يبذلون جهودًا استثنائية لدفع ذلك التشويه من خلال أخلاق الأداء العسكري وتجنب ضرب المدنيين وترك مساحة حرية واسعة في صنعاء للرأي، وأيضًا من خلال تحسين أداء مؤسسات الدولة وتوفير مناخ استقرار أمثل في ظل الظرف الخاص، غير أن هذه المنهجية الواضحة لتشويه أنصار الله تأتي ضمن نفس مخطط تأهيل أدوات وأطراف أخرى؛ لتكون بمثابة لاعبين جدد عند فرض تلك الحلول التفتيتية، وتحديدًا عائلة صالح التي يراد لها أن تمثل الشمال، وبحسب المخطط فإن ذلك لن يتأتى إلا بتشويه أنصار الله.

--

وجه الشبه بين تقرير الخبراء وإسماعيل ولد الشيخ

ملخص التقرير يغني عن الخوض في تفاصيله، وفرضياته ومنهجيته، التي استندت إلى منشورات مواقع التواصل وإشاعات الإعلام التابع للتحالف وأنصاره، تكفي لاعتباره تقريرًا مكشوف الانحياز، لا يشبهه إلا انكشاف انحياز المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد طوال فترة مهمته الطويلة، التي انتهت دون أن يحقق أي إنجاز يذكر، ثم يأتي ليكرر نفس ما قاله سلفه جمال بن عمر  “كانت الأطراف على وشك التوصل إلى حل” ، في حين يقول الواقع ومعطياته إن ثمة مسافة شاسعة بين أداء ولد الشيخ وأداء بن عمر، مقدارها عدم جواز المقارنة بينهما.

ولعل فشل المبعوث السابق إسماعيل ولد الشيخ أحمد طوال السنوات الثلاث الماضية يجعل مهمة المبعوث الأممي الجديد مارتن غريفيث البريطاني أمام تحدي المثل القائل “لا يأتي الزمان بأفضل مما كان”، فهل سينجح غريفيث في تحطيم دلالة هذا المثل الشهير؟