في البدء كان الحكم مدنيا ..

وشهد شاهد من أهله أن الحكم في البدء كان مدنيا.
1.         انتخب "الصحابة" "أبا بكر الصديق" – بعد ترشيحه في "السقيفة"- خليفة لهم، وبإعلانه خليفة للمسلمين، بدأ دور "الأمة" في ممارسة أعمالها، وانتخابِ حكامها، واختيارْ طريقة نظامها وفق "الثوابت"، وبانتقال "الرسول" إلى الرفيق الأعلى خُتمت فترة "النبوة"، وانقطع "الوحي" وبدأ دور "الاجتهاد" فيما فيه "نص"  وفيما ليس فيه "نص" وذلك وفق فهمهم لـ "مقاصد الثوابت"، وعلى ضوء ذلك مارس "الصحابة" دورهم وتحملوا مسؤولياتهم، مستلهمين ثوابت "القرآن" الكريم وصحيح "السنة"، ومستلهمين كذلك حديث (أنتم أخبر بشؤون دنياكم)  وما جاء في "صحيفة المدينة"-وهي بمثابة دستور الأمة السياسي- من مبادئ اعتبرت "المسلم" و "اليهود"، و من لم يسلم من القبائل كـ "بني أوس": "أمة واحدة من دون الناس" وتركت لكل منهم دينه الخاص، وشرائعه الخاصة، في اطار الاتحاد الكبير ومرجعية "الرسول" فيما كانوا فيه يختلفون. أي  بلغة اليوم كانوا يعودون إلى مرجعيى واحدة فبالتوقيع  على انه(ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو إشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله)  تم الاعتراف بقيام الأمة الإسلامية من قبل الأقلية الذين منحت بدورها -كما يقول "غارديه"- حقوقا معروفة وحددت عليها واجبات واضحة .
بتلك الرؤية تعزز دور "الأمة" في صياغة أمرها. لكن، تلك الصحيفة المذهلة دفنت مع مدنية الخلافة حتى لا تعود الأمة إلى دورها القيادي. وقد تحدثت عنها في غير هذا المكان.
على أثر انتخاب "أبي بكر الصديق" نشأت مؤسستان مدنيتان مستقلتان هما: "بيت مال المسلمين" و "القضاء". وبهما تم توزيع صلاحيات "رسول الله"- صلى الله عليه وآله وسلم بين المؤسسات الثلاث بشكل قاطع، أي أنه تم منذ اللحظة الأولى لقيام "الخلافة الراشدة" الفصل بين السلطات الثلاث كما تسمى اليوم، فلم يكن الخليفة قادرا على التدخل في "بيت المال" ولا على التدخل في "القضاء" بل كان يخضع لهما، ويأتمر بأمرهما. و لمّا بدأ العبث بـ "بيت المال" قدم أمين بيت المال استقالته إلى المسلمين داخل حرم «المسجد» وفي حضور الخليفة نفسه، ولم يقدمها في بيت الخليفة، ولا إلى الخليفة.        لأنه يدرك أن مصدر التشريع، هي الامة لا الخليفة لأن الخليفة نفسه ليس سوى أجير عند المسلمين .
ومنذ البدء أيضا وفي ظل هذه المؤسسات فهمت الخلافة بمعناها اللغوي: أي بمعنى التالي، أو الخلف، وليس بمعنى أنه خليفة الرسول ولكن خليفة المسلمين، أي رئيسهم بدليا أن ليس له حق التشريع، وإنما كغيره من الصحابة حق الاجتهاد واجتهاده غير ملزم لغيره، بل يظل رأيا من الآراء يُصحح ويراجع و يرد؛ فهو كـ "خليفة للمسلمين" عليه الالتزام بـمقاصد "الثوابت" والعمل بالشورى، والقيادة الجماعية، فإن اخلّ الخليفة بما عاهد عليه  فلا طاعة له عليهم. ووفق هذه المعايير  جرت بيعة "أبي بكر" وسط الإقرار بالخروج عليه، وخلعه من منصبه، إذا لم يف بما عاهد عليه الأمة.
تضمنت البيعة إذن حق خلع الخليفة إذا انحرف لأنه بشر يخطئ ويصيب، ولو كان الخليفة  منصوصا عليه من "رسول الله" صلوات الله عليه - وهو ما روّجت له "الجعفرية" القائلة بـ "النص"، وما روجت له "السنة" القائلة بـ "القرشية"- لما جاز لهم خلعه، ولا الخروج عليه، لأنه ولي الأمر بأمر الهي.
رشح "أبو بكر" الفاروق "عمر بن الخطاب، فارتضى الناس ترشيحه فبايعوه خليفة. وهو بدوره رشح ستة شخصيات للخلافة، فاختار "ابن عوف"- وقد فوض في احتيار الخليفة-"عثمان بن عفان" بطريقة لا تخلو من تحيز، وارتضاه الناس، فمضى كسابقيه مدة ست سنوات، ثم وقع في قبضة "لوبي أموي" ماهر فأساء إلى الناس، وبدا خبهم للحليفة نفورا، فطالبه من ثار على تصرفاته بخلع نفسه، فأبى وقال- أو قيل بلسانه-: "ماكنت لأخلع قميصا ألبسنيه الله"  فانتهى بمأساة أليمة لخصها الإمام "علي" بقوله عن "عثمان" و الثوار: "استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع". و "عثمان" يعرف أن الناس عقب موت "عمر" هم الذين ألبسوه قميص الخلافة، فلهم الحق في تجريده منه، ومن يملك التلبيس يملك خلعه، ولكن "اللوبي الأموي" حوّل التلبيس إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي ألبسه القميص، فليس للبشر حق خلعه.
انتخب الناس بعد مقتل "عثمان" الإمام "علي" بطريقة مباشرة، وليس عن ترشيح خليفة سابق، فأراد أن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه، ولكنه استشهد قبل أن يحقق ما أراده، فجاء اليه أصحابه وهو على وشك الموت يسألونه أن يرشح "الحسن" لخلافته، فرفض وترك لهم أمر من يختارونه، فاختاروا "الحسن" وبايعوه، لكن جيوش "معاوية" هزمته فاستسلم، وظن أنه بهذا الاستسلام سيعيد وحدة صف الأمة، ولكنه بهذا الشعور النبيل لم يدر أنه وقّع على إضاعة حقوق الأمة السياسية في الوقت الذي اعلن استسلامه، ولم تمر فترة يسيرة حتى ضاعت الحقوق، ولم يمر أكثر من قرن بقليل إلا وانفصلت "الوحدة الإسلامية" على يد "صقر قريش "عبد الرحمن الداخل" الذي فصل "الأندلس" عن شرق الخلافة، وتبين ان تنازل "الحسن" لم يحفز الوحدة وام يحفظ الحقوق؛ فلا "الوحدة" بقيت، ولا الحقوق ضُمنت، بل بعثرت وقبرت.
بالانتخاب، وبالفصل بين السلطات، وبفهم مقاصد الثوابت، وبالانتخاب، وبالتداول السلمي للسلطة وبـ "صحيفة المدينة" تأكد بما لا يقبل الشك أن حكم الخلافة الراشدة منذ البداية كان مدنيا، وليس كما يصورونه حكما دينيا.
(2)
ينبغي أن نتأكد على ضوء  وقائع التاريخ الثابتة أن انتصار "معاوية" –عبقري "قريش"- على "الخلافة الراشدة" تم عن طريق القوة، والقوة وحدها، وليس عن طريق الانتخاب، ولا بالطرق السلمية، ولأنه كذلك فقد كان بحاجة إلى شرعية تثبّت مواقعه الجديدة، وتعينه على تغيير الحكم من "مدني" إلى "ديني" ومن "خلافة" إلى "ملك" كي يضمن "الوراثة" في عقبه على غرار ما كان قائما في "دمشق البيزنطية" التي تأثر بها كثيرا، لهذا عمد- تؤازره مجموعة من "فقهاء السلطة"- إلى الهفوات التي وجدت في تجارب الحكم المدني، فجعل منها مبادئ مقدسة، لا مجرد هفوة طائشة او تدبير كائد، فاعتمد عليها في تحقيق أهدافه؛ فقد اتحذ هو و فقهاؤه  مما نسب إلى الخليفة "عثمان" من قول: ما كنت لأخلع قميصا ألبسنيه الله مبدأً شرعيا، نسج منه تديين الخلافة، باعتبارها قميص يلبسه الله من يشاء، ومن يلبسه الله فلا يخلعه عنه الناس، ثم عزز ذلك بإشاعة  فكر "الجبرية السياسية" فأشاع بين الناس - بما له من قوة السلطة ورهبتها- أن الله هو الذي هزم "عليا" وأن الله هو الذي نصره، وما لبثت هذه الأفكار ان تحولت إلى مذهب ديني سمي "مذهب الجبرية" واصبح هذا المذهب مذهب الدولة، ومن قال بغير الجبر كـالقول بـ "حرية الإرادة" فقد عرض نفسه للموت المؤكد، وبالفعل فقد تدحرجت عدة رؤوس قالت "بحرية الإرادة"، وسقط كثير منهم مضرّجين بدمائهم .
على إثر نشوء "مذهب الجبرية" أُنشئ أيضا - من أجل توفير الصلاحيات المطلقة للخليفة- "مذهب المرجئة" الذي يرجئ محاسبة الحاكم إلى الله لا إلى الأمة. والمرجئة هو (دِين يوافق الملوك)
ثم عمد فقهاء السلطة"- من أجل تديين الخلافة- إلى أمر "النبي" صلى الله عليه "أبا بكر الصديق" أن يصلي بالناس فربطوا بين إمامة الصلاة وإمامة الناس وقالوا: "من ارتضاه لديننا ارتضيناه لدنيانا" وبهذا تم دمج المدني بالديني في تفسير مغتصب، لم يخطر في ذهن الصحابة آنذاك وإنما ركب فينا بعد، والثابت أن  "أبا بكر" نفسه قد صلى خلف "عمرو بن العاص" وكان تحت قيادته، ولم يخطر ببال الناس أن يقدموا "عَمْرا" على "أبي بكر الصديق" لأنه صلى به، وأنه كان قائده في إحدى الغزوات. ولأمر ما كان "النبي" صلوات الله عليه  يحرص على التفريق بين الأمير كوالي، أو كقائد، وبين إمامة الصلاة ، وبين المسئول عن قبض الزكاة- أي المال- عندما يبعث البعوث ـو يرسل الحملات،  فكان في كل حملة أو تعيين ثلاثة امراء مستقلون كل في مجال اختصاصه، وكان من النادر أن يجمع شخص واحد بين القيادة السياسية او العسكرية، وبين إمامة الصلاة، أما المال فلم يحدث قط أن جمع إلى الأمير، مما يعني بكل تأكيد أن إمامة الصلاة لا تعني إمامة السياسة بأية حال، ولكن الساسة ارادوها هكذا، فكان لهم ما يشتهون، وكان لأم الأمة الهبل. ويحق لنا أن نقول أن تعيين ثلاثة مسئولين كان البداية للفصل بين السلطات القيادية والمالية والعبادية، لكن مع كل ذلك فقد تمكن "فقهاء السلطة" من جعل صلاة "أبي بكر" أثناء مرض "الرسول" وسيلة لتديين الخلافة عن طريق الدمج بين إمامة الصلاة وقيادة الأمة، مع أن "معاوية" نفسه وخلفاؤه من بعده لم يكونوا يصلون بالناس إلا نادرا، وكان لـ "معاوية" مقصورة داخل المسجد يصلي فيها مؤتما منفردا، ومع ذلك فقد أصبحت- تحت ضخ اعلامي زاخر – صلاة "أبي بكر" العبادية صلاة سياسية بامتياز كما يقال اليوم. وهذا يبين لنا دور الإعلام السياسي في سلب عناصر الفهم من أدمغة الناس.
نخلص من هذا إلى نتيجة مهمة وهو أن حكم القوة - وقد تغلب على الشرعية المدنية- هو الذي فرض تديين الخلافة وتقديس الخليفة، ولو بقي الحكم مدنيا كما كان لما كانت المصائب التي حاقت بـ "الأمويين" أنفسهم، ولا بـ "العباسيين" ولا بـ "الفاطميين"، ولا بنا نحن في هذا القرن الخامس عشر الهجري/ الواحد والعشرين ميلادي.
ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
*رئيس مركز التراث والبحوث اليمني

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
2 + 4 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.