ثورة بلا نِقَاب

من العسير أن أتصور ثورة لا تكون خروجاً على الأدوار الإجتماعية النمطية التقليدية التي تمثل بجملة مُسَلَّمَاتها وأعرافها الراسخة في ذهنية الأفراد، الكتلةَ الغيرَ مرئية لجبل جليد السلطة الغائرة ؛ في قعر المجتمع.
الثورة كفعل راديكالي مغاير وجامح، لا يمكنها أن تنخرط داخل الأنساق التقليدية السائدة، كما لا يمكن لهذه الأنساق أن تكون رافعة حقيقية لها، إلا إذا كانت "الثورة" متلائمة معها كليّاً، وفي هذه الحالة فإنه يجدر بنا أن نسميها أي شيء عدا ثورة؛ فلا معنى لثورة بلا نقيض اجتماعي اقتصادي ثقافي سياسي، تخوض معه صراعاً واعياً وتطرح نفسها بِقِيَمِها وقواها الإجتماعية بديلاً جذرياً له...
في اليمن لم تفلح حالة التذمّر العام في أن تتحول إلى ثورة رغم الضريبة الباهظة التي تكبدها الشارع اليمني، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الفشل المبكر أن ركبت القوى التقليدية من مشيخ وعسكر ورجال دين، موجة الاحتجاجات، التي عوضاً عن أن تثير مخاوفها، أثارت شبقها لمراكمة المزيد من المكاسب ووضع اليد على نصيب الأسد في سلطة كانت حصة هذه القوى فيها قد بدأت تتضاءل لصالح توازنات جديدة محكومة برؤية "المُخرج العالمي" لطبيعة المعادلة السياسية في اليمن والدور الذي يُريد لها أن تلعبه.
إن عجز ما يسمى "ثورة" عن أن تكون خروجاً على سلطة تنميط الأدوار بإرادة خارجية على مستوى الفرد والدولة، يعني وقوع المجتمع أسيراً للمزيد من التنميط وفقدان السيطرة على شروط التحوُّل ومقتضيات النهوض لعقود عديدة قادمة.
هذه القولبة تطال كل شيء: هناك دور إجتماعي للمرأة ينبغي ألا تتجاوزه في مقابل دور الرجل الذي ينهض هو الآخر بدور في تراتبية القيمة الإجتماعية الغير محتكمة لشروط ومزايا متاحة ويمكن اكتسابها، والإنتقال السلس في درجات سُلّمِها من الأدنى للأعلى، بل محددة سلفاً من قبل قلة مستبدة مهيمنة "أوليغارشيا" تحتكر السلطة وتقسر شتى فئات وفعاليات المجتمع على الدوران حول مصالحها كمحور ارتكاز لا يتزحزح.
وكما تسرِي هذه القولبة والتنميط القسري للأدوار على الأفراد والجماعات في إطار البلد الواحد، فإن البلد ذاته يقع فريسة للتنميط في علاقاته بالبلدان الأخرى التي تحتل بمعيار الهيمنة مصافاتٍ عليا في تراتبية القيمة إقليمياً ودولياً؛ وتدور في نهاية المطاف ؛ حول مصالح أمريكا كمحور ارتكاز عالمي يلغي كل شروط وخصوصيات خارج شروطه وخصوصياته ويتربع سدَّة الهيمنة كقطب وحيد يرمي بكل ثِقَلِه للحيلولة دون نشوء عالم متنوع متعدد الأقطاب.
إن حركة الأفراد والدول خارج الأنساق المرسومة لها سلفاً، وكَسْر المعايير والشروط التي تُقَيّم الفرد والجماعة من زاوية ما ينبغي أن تفعله ويجب ألا تتجاوزه، لا ما يمكن أن تفعله وتتوق لأن تبلغه، بمعزل عن كوابح النوع واللون وتوارث القيمة الإجتماعية كتركة حصرية لفئة دون أخرى...
إن حركة الأفراد والدول خارج هذه الأنساق والقوالب، هو الثورة التي لم تحدث، ولم تسجل مجتمعات – كاليمن بدرجة رئيسة ومصر تالياً ثم تونس- عدا خروقاتٍ ثورية كانت أكثر حِدَّة لدى الأخيرة وأكثر خفوتاً لدى الأولى.. خروقات كادت أن تكون ثورة قبل أن تصطدم وتذوي على جدار الإذعان للسائد، وتَدفعَ كُلفةً فادحة للتشبُّث- على الأقل – بالحد الأدنى المتوافر من حريات سابقة للاحتجاجات، تُكَشِّر جماعات الإسلام السياسي عن أنيابها بهدف إلتهامها....
إن تكديس النساء كبقعة سوادٍ شاسعة في ساحات مسيجّة، يمكن أن ينفع كمؤشر على مستوى نفوذ سلطة الفحول والشهريارات، لا على حجم الثائرين عليها، وعلى عجز المرأة وذعرها أمام تحدي التحوّل الثوري، لا على نسبة حضورها في المشهد السياسي؛ إنه ضرب من ضروب الغياب المُقَنّع بحضور مسرحي باهت وزائف...
وقد كشفت حادثة ضرب سياج فصلٍ نوعي بين النساء والرجال ؛ في "ساحة التغيير" بصنعاء ؛ خرافةَ شراكة المرأة ومدى رضوخها وقابليتها للانقياد.. كما وبرهنت على أن الساحات التي يُفتَرض لها أن تكون وطناً بمقياس الرسم للوطن المغاير الذي نحلم به، لا أكثر من مقاصير حريم يحكمها شارب "أبي زيد الهلالي سلامة وصليل سيف مسرور وعُقَد الزير سالم".. في ظل مَوَاتِ وإذعان الأكثرية "الثائرة مجازاً" من النساء والرجال.
هل كان علينا تبديد كل هذا الوقت لنَصِل إلى قناعة أن حدود الساحة لم تكن إلا المعادل الموضوعي لحدود الذهنية التقليدية الحاكمة التي لا ثورة بغير الخروج عليها؟!....و لا خروج عليها بغير ثورة تبدأ على مصاف وعي الفرد "امرأة ورجل" بذاته وقدرته على انجاز قطيعة مع قيم السلطة المكَبِّلة لطاقاته والمهينة لآدميته...
بمعنى آخر قدرته على أن يعيش القيم التي يناضل في سبيل أن تسود على المستوى العام.. أي أن يكون طليعياً وكفؤاً للحياة التي يبشر بها وأنموذجاً فردياً لها ودافعاً أولَ لضريبةِ المُغَايَرة في مجتمع متماثل ساكن لا يجرؤ على أن يكون أكثر مما هو عليه ولا يحلم في أن يكون!
إن الثورة بهذا المفهوم فقط، تكون غير قابلة للسرقة ويكون من السذاجة القول بذلك، "فلا أحد بوسعه أن يمتطي ظهرك مالم يجده محنياً" وفقاً "لمارتن لوثر كنج". إِذْ أنَّ لصوص الثورات لا يسرقون سوى الشروط الخارجية لتَحَقُّقِها ومجال فعاليتها الموضوعي عبر المزيد من السيطرة على شروط وأدوات الحكم السياسية والاقتصادية....
قد تكون مكبلاً وحراً في الوقت ذاته، وقد تكون بغير قيود عبداً طليقاً.. وعلى مر التاريخ كانت القيود من نصيب الأحرار الذين يتميزون بذوات طليقة يعجز الجلادون عن تكبيلها...
إن هذا يمكن أن يفسِّر الهجمة الشرسة وسلسة الاعتداءات الأدبية والمادية المستمرة التي تعرض ويتعرض لها أفراد طليعيون من هذا القبيل ؛ بدءاً بأروى عبده عثمان، هدى العطاس، والخيواني ووداد البدوي وأحمد سيف حاشد وأمل الباشا وفكري قاسم ومحمد المقالح ومروراً ببشرى المقطري "الأوفر نصيباً"، وليس انتهاءً بالمصور الصحفي المبدع وائل العبسي...فهؤلاء هم طلائع الخروقات الثورية و التهديد الوحيد للذهنية التقليدية الحاكمة على قاعدة إذعان الأكثرية لسلطتها.... و هذا يفسر أيضاً، حوافز القوى التقليدية بصِفَتَيْها "الحاكمة والمعارِضَة" لإحراق ساحة الحرية بتعز، وتدبير مجزرة الكرامة تحت شمس ظهيرة فاضحة، فالفشل المتكرر في تكبيل شباب تعز أفضى إلى "العلاج بالكي"، والرغبة اللئيمة في توفير مناخ ملائم لسلسلة الاستقالات المفبركة وانضمام "علي محسن" للثورة بهدف تكبيلها وضمان قبول شباب ساحة صنعاء ودخولهم طواعية في أَسْر الجنرال، اقتضى حدوث مجزرة الكرامة...
في موازاة ذلك وفَّرَ إعلام النفط سحابةً كثيفةً من التعتيم والفلترة ومَسْرَحَةِ الأحداث، لإجهاض انتفاضة الشارع وتضخيم دور القوى التقليدية فيها، وتقديم خسائرها الفادحة على هيئة مكاسب عظيمة ينبغي الاحتفاء بها.. أما حوافزه في ذلك فضمان استمرار اليمن كرهينة تاريخية لشيوخ البترودولار وضبط حركة التغيير في هذا البلد الطَّيِّب؛ على ساعة مخاوف ممالك الاسترخاء والخَدَر وحاجة أمريكا لسوق منبطحة راضخة ممتدة من الماء إلى الماء...
إن اليمن لكي تنجز التغيير المنشود واللائق بها كبلد وشعب، بحاجة لأن يكون نوارسها من فصيلة "مها الشرجبي وبشرى المقطري و شفيع العبد و محمد صبر وأمل باشا والخيواني و يابلي و محمد حسن الزبيدي وحاشد و صلاح السقلدي" ضِعْفَ زواحفها وطيورها الداجنة من سلالة "عبدالله احمد علي و فؤاد البنا والزنداني والآنسي وفتحي أبو النصر و باسندوة...."...بحاجةٍ لأن يكون سياسِيُّوها من فصيلة "مُقبل و الحمدي و يحيى العرشي و محمد عبدالرحمن المجاهد و علي سالم البيض و محمد علي عثمان و أحمد الشرجبي و عبدالفتاح إسماعيل و باعوم و الجاوي.." ضِعْفَ سياسييها من شاكلة " صالح و عبدربه و حميد و حسين الأحمر و طارق الفضلي و البركاني..."..
عندها فقط نستطيع أن نصرخ بملء الفاه، " أنجزنا ثورتنا"و... نفرح

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
9 + 0 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.