بين خطاب السيد " عبد الملك " .. و خطاب السيد " محمود "

قرأت امس الأول مقالة الأخ و الزميل العزيز محمود ياسين التي بعنوان " العلمانيون بلاميراث " .. و أحببت مناقشتها لأن محمود ياسين يعجبني قلمه و طريقة طرحه ، لكنه احيانا يستفزني حين يتعمد الالتفاف على الواقع و مغالطة نفسه أولا و الحقائق ثانيا ، و استسلامه للدافع العاطفي و الحكم المسبق ..
يقول السيد محمود ياسين :
" خطبته الأخيرة (عبد الملك موش الامام علي) خطبته الأخيرة وضعت حداً لآمالنا المفتعلة بقيادته لجماعة سياسية يمكن التعايش معها في بلد للجميع. الرجل لن يرضى بأقل من البيعة ونحن لن نبايع ولن نقبل بخوض جدل فقهي حول مقاصد حديث الغدير، ذلك ان ما يردده الشيعة عن كلمات ووصايا النبي في غدير خم هي حقائق تاريخية والكل الآن يحاول الوجود والاستقواء بالاحاديث النبوية، وكل جماعة "تدي" حقها الحديث، وتوظيف روح اعظم العرب الى مدير دعاية خاص بكل جماعة والنبي ارفع وأسمى من هذا كله. "
أعجبتني الفقرة المنصفة التي يقول فيها
" ان ما يردده الشيعة عن كلمات ووصايا النبي في غدير خم هي حقائق تاريخية "
كان هذا كافيا ، فالاحتفال بعيد الغدير الهدف منه التذكير بأن هناك من غطى و غيب و لا يزال يغطي و يغيب هذه الحقائق التاريخية و لأغراض سياسية طبعا ..
لكن الذي استغربته هو .. من أين أتى محمود بكل هذا الجزم الذي لا يترك مساحة للنقاش و اصدر حكما مطلقا بأن السيد عبد الملك " لن يرضى بأقل من البيعة " ..؟!!
مع ان السيد عبد الملك قال في الخطاب " نُصرّ على إقامة حكومات عادلة ، حكومات تقيم العدل فينا " ..
السيد هنا يقول : نريد حكومات تقيم العدل فينا و لم يقل نريد أن نشكل حكومات او ان نكون نحن الحكومات بل قال تقيم العدل فينا .. فكيف حكم السيد محمود ياسين بهذا الحكم القطعي الذي لا يعتمد الا على انطباع مسبق و موقف عاطفي بحت ..؟!!
و كان حريا بالسيد محمود ياسين ان يرى في هذه العبارة قرينة - على الأقل – تضعف الاحتمال الذي جعله السيد محمود ياسين حكما قطعيا بدون اي قرائن تذكر ..
ثم يسترسل السيد محمود ياسين في مقالته قائلا :
" ولو اعتمدنا ظواهر النصوص النبوية وتركناها للمستفيدين الاكثر جاهزية لكنا بذلك نعطي الولاية لاحفاد النبي وللزنداني ولعمر بن حفيظ وللقاعدة فلكل جماعة غديرها الملائم لمزاجها وان كان غدير الامام علي هو الاكثر جلاء الا أنه ليس علينا الرضوخ لأن يخيرنا هؤلاء بين سطوة النص او الكفر."
أعجبني انصافه المعهود في ما يخص الحقيقة التاريخية في قوله :
" كان غدير الامام علي هو الاكثر جلاء "
هنا يبدو أن السيد محمود ياسين يصطدم بعنف مع نفسه في هذا المقال ، يفترض انه في هذا المقال يتحدث باسم العلمانية ، فباسم من يقول " لو اعتمدنا ... و تركنا ... لكنا بذلك نعطي ...." ، و من هو المعني بنظره في أن يعتمد النصوص و يعطيها معناها و أبعادها و تأثيرها على الواقع ..؟!!
إلا إذا كان السيد محمود يقصد أن هذه النصوص لا ينبغي ان تترك أثرا على الواقع و لا مجال لتركها تؤثر عليه لا حاضرا و لا ماضيا فهذه وجهة نظر مختلفة لم يكن موفقا في التعبير عنها بتلك الطريقة و بتلك اللغة التي توحي بأنه يتحدث باسم المعنيين باعتماد و توجيه النص .. لكنه بدا متناقضا في بداية المقطع مع رفضه اصلا لتأثير النص في مجريات الواقع نهاية المقطع حين يقول " الا أنه ليس علينا الرضوخ لأن يخيرنا هؤلاء بين سطوة النص او الكفر." ..
و أحيانا يفصح السيد محمود ياسين ايضا عن تصادمه مع قناعات جمعية و ثوابت عقائدية و قوانين كونية .. لنتأمل قوله :
" العلمانية خيار حياة آمن غير قابل للتأويلات المتصادمة ليبقى ديننا روحا وليس مجموعة بصائر ووصايا تبدو بسبب تناقض مجاميع الورثة وكأنها متناقضة كليا بينما كان النبي يهدف لانقاذ الانسان وليس تجنيده للعمل في أراضي الورثة. تقول لأحدهم نريد عدالة وحقوقا وحريات وتنفعل بقيم التحديث فيقول لك قال رسول الله وغلق الباب بوجهك فتلوذ بالصمت مفكرا في البحث عن مفر من رائحة العطر العنيفة تنبعث من ثنايا رجل يسعى لاقناعك عن طريق الحوار انه خير منك وان عليك تسليم روحك لمزاجه، "
إذا كان محمود ياسين يقصد أن العلمانية هي أن ننسى النص و نتجاهل التوجيه الإلهي نهائيا و نقطع علاقتنا بالحقائق الكونية و الثوابت العقيدية بشكل كامل ، و يرى ان النص يقف بوجه الحريات و العدالة و الحقوق و يتصادم معها ... فلماذا يتحدث عن النبي و كيف كان يهدف لإنقاذ الإنسان ... مع انه " السيد محمود طبعا " يرى النص النبوي غير مناسب لقيم التحديث و ذلك حين يردف بالقول :
" تقول لأحدهم نريد عدالة وحقوقا وحريات وتنفعل بقيم التحديث فيقول لك قال رسول الله وغلق الباب بوجهك فتلوذ بالصمت "
انا شخصيا اقف في صف محمود ياسين إذا كان يقصد أن العلمانية لا تتصادم مع حقيقة ما جاء به الرسول الأعظم صلوات الله عليه و على اله ، و أن هناك نصوصا مفتراه عليه و الهدف منها تكريس الاستبداد و الظلم و الفردية و التطرف و محاربة كل جميل ، و هذا التزوير التاريخي هو ذاته الذي تآمر و أخفى حادثة الغدير و كرس في الوعي التاريخي انكارا له و لما ينبغي ان يترتب عليه من عدالة و مساواه و حرية و حقوق ، و استبدلها بتاريخ مليء بالاستبداد و الحكم الأسري و العائلي الذي حول الاسلام الى مملكة لعائلة تمارس القتل و التشريد بكل الأصوات الحرة و المطالبة بالحقوق و الحريات و العدالة و المساواة ..
و لكن لم يكن حريا بالسيد محمود ياسين ان يقف في موقع الحياد السلبي اذا كان مع المقصد الثاني ، و لم يكن من الانصاف ان يصدر احكاما جاهزة لمجرد انه يرى زيفا في التاريخ .. بل الجدير به ان ينبري للبحث و الاستقصاء و القراءة المحايدة للتاريخ و تحديد موقف ممن يستخدم تزييف حقائق الدين و التاريخ لأغراض سياسية .. أما الذي يرفع المبادئ و الرؤى النابعة من حقائق الدين و التاريخ فلا ينبغي ان يتم مساواته مع الذي يقمع بمادة دينية و تاريخية زائفة و يشوه صورة الحقيقة لكي يصنع انطباعا مغلوطا عنها في الوعي التاريخي ..
و لن أسأل السيد محمود ياسين من اين استنبط حكمه و على ماذا اعتمد ليقول بأن الرجل – اي السيد عبد الملك – يسعى لإقناعك من خلال الحوار بأنه افضل منك .. لأنه لم يعتمد على شيء منطقي بل عاطفي .. لكني سأسأله : لو افترضنا انه قالها عن طريق الحوار فأين المشكلة مادام لديك عقل و حرية لتقبل او لا تقبل .. أليست هذه هي الطريقة الحضارية للتعامل مع المختلف .. ؟؟
إذا كنت ترى في ذلك مشكلة فأنت تجسد يا سيد محمود شكلا من اشكال القمع و الرفض للآخر و ترى نفسك أفضل منه و تزعم انك تمتلك الحقيقة المطلقة و تصادر حقه في أن يكون موجودا .. و إلا فما هي الطريقة المثلى للعيش المشترك في نظرك .. هل ترى ان الحل ان يتخلى الآخر عن ما يعتبرها قناعات و ثوابت ..؟؟
و عموما لا أدعوك هنا الى ان تسلم لقناعات السيد عبد الملك التي طرحها في خطابه ، و لن أتهمك لأنك مختلف معها .. لكني أدعوك إلى أن تتوقف في خطابك عن اصدار الاحكام دون قرائن " على الأقل " مع ان الأحكام تستدعي يقينا في الدليل و القرينة ، فهذا يجعل من كلامك مجرد حكم مسبق مبني على قصدية كيدية و في احسن الحالات موقف عاطفي و طائفي ، و هذا يتناقض كليا مع قيم العدالة و المساواة و الحقوق و الحريات التي تنشدها و ننشدها معا سواء من خلال قوانين علمانية او من خلال قوانين الهية و توجيهات ربانية .

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
9 + 8 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.