هكذا اخفقت السعودية في حربها الجوية..

يكفي أن يظهر قائد حركة "أنصار الله" السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي الآن في خطابه المتلفز رقم "2" ليعلن تحقيق نصر إستراتيجي في مواجهة الجولة الاولى من العدوان السعودي الاميركي وليضع قيادة الحرب المتعددة الجنسيات أمام سؤال مصيري: ماذا بعد؟ وما هي الخطوة التالية: توغل بري، أم إنزال جوي، أم إنزال بحري؟ وماذا سيكون المصير؟

فبعد أسبوعين كاملين من الغارات الجوية المكثفة التي نفذتها مئات الطائرات السعودية بإشراف غربي كامل واحيانا بقيادة مباشرة من الطيارين الاجانب (كما كشف تقرير نشرته مجلة نيوزويك في 11 أيلول 2014 بشأن القدرات البشرية للجيش السعودي، تعليقاً حينها على مشاركة بعض الدول العربية في القصف الجوي لأهداف في سوريا)، يتضح فشل استراتيجية حسم الحرب من الجو التي راهنت عليها قيادة المملكة، رغم ان التجارب الماضية القريبة في لبنان وغزة اسقطت هذه الاستراتيجية بالكامل. لكن ذلك لم يمنع القيادة السعودية "المحترفة" من ادارة حروب "النصر" المتنقلة وتجريب المجرّب، لذلك باغتت اليمنيين في ليلة هادئة بوابل من الصواريخ مع بيان "نوعي" يسمي عدوانهم بـ"عاصفة الحزم" حتى يظن المستهدَفون أن الامر قضي وأن عليهم ان يستسلموا الان وليس بعد ساعة. 

 ترجمت اليقظة الامنية بعيد اصدار حزب الاصلاح بيانه المؤيد للعدوان والذي كان بمثابة ايعاز بانطلاق مخطط امني خطير تم توجيه ضربة قاصمة له







لكن الحصيلة الاولى التي يمكن استعراضها في عدّة فقرات تظهر أن العدوان دخل بعد اسبوعين في عنق الزجاجة ولم يعد له في الافق سوى الهزيمة، حتى لو ترجمت على شكل اطلاق لمسار سياسي مستبعد. ويمكن تلخيص مؤشرات الهزيمة على الشكل التالي:

أولاً، كان هدف الضربات الجوية تشتيت وتشظية القدرة القتالية للجيش اليمني واللجان الشعبية ووقف تقدمها نحو الجنوب لاستعادة المحافظات التي بدأت تعيث فيها ميليشيات الفار عبد ربه منصور هادي وعناصر "القاعدة" وميليشيات حزب "الاصلاح" فساداً. لكن بدل ان تعود الالوية العسكرية واللجان الشعبية الى قواعدها في المحافظات الشمالية تمكنت في غضون عشرة ايام من تطهير واستعادة جميع المحافظات الجنوبية من البيضاء والضالع ولحج وابين وعدن وصولا الى شبوة، الى درجة انه لم يتبق سوى محافظتي حضرموت والمهرة في الجنوب، وهما قياساً الى بقية المناطق تعتبر استعادتهما الى كنف الشرعية اليمنية امراً لا مفر منه وتحقيقه يسير. وبالتالي سقط الهدف الاستراتيجي الميداني الأول، إضافة الى سقوط الهدف الاستراتيجي السياسي الموازي وهو ابقاء  عبدر ربه منصور هادي في عدن، التي اراد تحويلها عاصمة سياسية بديلة عن صنعاء، وواصل الأخير عمليات الفرار بغطاء اميركي سعودي وغادر الى السعودية ليستقر في جدة بجوار اللواء الفار علي محسن الاحمر وباتا الان مطلوبين للعدالة اليمنية بأمر من المحامي العام الأول في صنعاء الذي احالهما مع آخرين الى النيابة العامة. وبالتالي فإن تحقيق التقدم العسكري الكبير في الجبهة الجنوبية يقود الى الاضاءة على نقطة اساسية في كيفية تحقيق هذا النصر النوعي والذي يستلزم ادارة محكمة للعمليات تتولاها منظومة متماسكة القيادة والتحكم، والتي تبين انها لا تزال تعمل وبفعالية ولم تتأثر بالضربات الجوية. ويعرف السعوديون ومعهم الاميركيون ان عمل الجيش اليمني كقوة نظامية الى جانب اللجان الشعبية كقوة غير نظامية يستلزم نمطا معينا من الادارة والتنسيق والعمليات اللوجستية التي اظهرت الوقائع انها لم تمس بسوء، والا كيف استمر تقدم القوات، وكيف استمر تأمين الذخائر والطعام وبقية المستلزمات اللوجستية، رغم التحليق المستمر للطيران المعادي والكثافة النارية واسناده مسلحي القاعدة وميليشيات هادي والاصلاح بالغارات على خصومهم، الى ان بلغ بهم الامر امدادهم بالاسلحة والذخائر جوا على الاقل ليبقوا في بعض الجيوب، ومع ذلك لم يتمكنوا وفروا. وبالتالي فإن استعادة المحافظات الجنوبية كانت الرد العملي الاول والقاصم للموجة الاولى من "عاصفة الحزم" والهدف الأول والاهم لها في هذه المرحلة. ويتوقع ان يعقب استكمال هذا الإنجاز خطوة جديدة صادمة للعدو فيما يتعلق باستكمال ملء الفراغ الدستوري بما تتطلبه المرحلة المقبلة من مؤسسات.

النقطة الثانية التي تؤشر الى الفشل النوعي للعدو هي ان بنك الاهداف الذي يفترض انه موجود لدى "القيادة المحترفة" التي تدير الحرب، قد انتهى امره في بضعة ايام، فهو لا يحتاج الى اسبوعين في ظل هذا العدد الوفير من الطائرات المتطورة التي تستبيح الاجواء اليمنية وهذا العدد الاوفر من الغارات. علما ان لدى السعوديين من المعلومات حول الاهداف العسكرية للجيش اليمني ما يكفيهم للقضاء على بنيته التحتية بيومين او ثلاثة، لا سيما وان الاميركيين باعتراف بيان البيت الابيض بعد ساعات من بدء "عاصفة الحزم" قدموا معلومات استخباراتية ومساعدات لوجستية بينها طبعا تحديد احداثيات دقيقة كافية لتدمير جميع المنشآت العسكرية في مهلة قصيرة جداً، فضلا عن اعتراف السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير في مقابلته مع شبكة سي ان ان الأميركية ان التنسيق والاعداد والتواصل مع الاميركيين بشأن الحرب يتم منذ اشهر عدة. وعليه فان استمرار الغارات على اهداف عسكرية يعتبر اهانة لسلاح الجو المعادي لانهم يضربون جيشاً نظامياً مكشوفا بالكامل للاميركيين والسعوديين وما لا يحصى من اجهزة الاستخبارات الاجنبية والعربية والتركية الناشطة في اليمن، والأهم مجموعة الضباط المقيمين في السعودية وعلى رأسهم علي محسن وعبد ربه اللذين زودا قيادة الحرب بما تحتاج من معلومات واحداثيات. وهذا الاخفاق الاضافي تحول الى حنق ترجم لاحقاً في توجيه الغارات على اهداف ومنشآت مدنية بعدما استنفد بنك الاهداف العسكرية، ومع ذلك بقي الجيش اليمني يعمل ويتقدم في الجنوب ويضبط الامن في الجبهة الداخلية.

المؤشر الثالث فائق الاهمية تمكنت قيادة الثورة من تظهيره على شكل تماسك أمني كبير منع أي عملية فوضى على شاكلة تفجيرات واغتيالات كان يتوقع المنظمون للعدوان ان تُفعّل مباشرة بعيد أول ضربة. لكن اليقظة الامنية العالية للمؤسسة الامنية وللجيش وللجان الشعبية منعت حصول اي خرق في الجبهة الداخلية على مستوى المحافظات الشمالية. وهذه اليقظة ترجمت ايضاً بعيد اصدار حزب الاصلاح بيانه الشهير المؤيد للعدوان والمبرر له، والذي كان بمثابة ايعاز بانطلاق مخطط امني خطير تم احتواؤه وتوجيه ضربة قاصمة له ووئد في مهده، وهو ما كشفه الناطق الرسمي لحركة انصار الله محمد عبد السلام في تصريح له نشره على حسابه على صفحة "الفايسبوك" الاحد الماضي متحدثاً عن رصد الاجهزة الامنية تحركاً مشبوهاً ما جعل الاجهزة المختصة تتعامل مع الموقف بحزم ويقظة عالية وسرعة فائقة حتى لا يظن هؤلاء الحمقى انهم سيستغلون الوضع لخلط الاوراق، كما قال عبد السلام. كما ترجم هذا الحزم بمداهمات كبيرة في عدة محافظات وخصوصا في صنعاء للقيادات والكوادر المشتبه بهم في حزب الاصلاح وتم وضعهم رهن الاعتقال والتحقيق بما اجهض مؤامرة كانت تدبر في ليل.

أما المؤشر الرابع الذي لا يقل أهمية فهو الالتفاف الشعبي حول الجيش واللجان الثورية والانخراط في موجات التعبئة العامة العارمة التي دعا لها السيد عبد الملك وتجاوزت اعداد المتطوعين النصف مليون مقاتل وفق مصادر يمنية مطلعة، وشملت مختلف شرائح المجتمع وتنوعت بين تحشيدات قبلية، وقوافل مؤن ودعم للجيش واللجان الشعبية، وتبرعات بالمال والذهب من النساء. وفي حين كان الرهان ان ترتفع اصوات شعبية تندد بالثورة وتنفض يدها منها، فان العكس تماما هو الذي حصل اذ زادت وتيرة المسيرات الشعبية الحاشدة في مختلف المحافظات، وخصوصا في صنعاء، الاكثر استهدافا بالغارات، المنددة بالعدوان والمؤيدة للثورة وقيادتها. وبلغ الامر بالنساء ان خرجن ايضا في مسيرات حاشدة وهن يحملن السلاح في خطوة اثارت حفيظة الرجال وزادت من الاندفاعة الثورية للتصدي للعدوان، لا سيما وان مثل هكذا خطوات لها تاثير كبير في المجتمع اليمني القبلي الذي لا يقتل غريمه القاتل اذا كانت تمشي معه امرأة في السوق، فكيف وقد حملت النسوة السلاح للدفاع عن الوطن.
 

النساء خرجن في مسيرات وهن يحملن السلاح في خطوة لها تاثير كبير في المجتمع القبلي الذي لا يقتل غريمه القاتل اذا كانت تمشي معه امرأة 







وهذه ظاهرة تستحق التأمل من اجل تحليل مسار المواجهة في المرحلة المقبلة. مثلها مثل ظاهرة الرجال الذين ارتدوا ثياب الاحرام ورفعوا بنادقهم متوعدين بالحج الى مكة المكرمة. ولمن لا يعرف رمزية هذه الخطوة، فانها عملية استعادة للحادثة التاريخية الشهيرة عند اليمنيين التي حصلت في نهاية خمسينيات القرن الماضي عندما منع الملك السعودي عبد العزيز آل سعود اليمنيين من الحج، فارسل له الامام احمد حميد الدين رسالة مختصرة بجملة واحدة: الحج فرادى او جمعاً. وكان هذا الحاكم اليمني مهاب الجانب لدى الجار السعودي فأذعن ابن سعود وسمح لليمنيين بالحج حتى لا يأتوا جميعهم وعلى رأسهم الامام احمد.

واللافت في هذا الحراك الشعبي الاستعداد لما يسمونه النفير العام الذي يريدونه من قيادة الثورة ويطالبون به في مسيراتهم على شكل اذن بالتوغل البري تجاه الاراضي السعودية لوضع حد للغطرسة التي يتعرضون لها، وهو مؤشر على حماسة غير مسبوقة كان العدوان يراهن على عكسها على شكل هزيمة نفسية تحدثها تلك الغارات العنيفة وذلك القصف الاعلامي. لكن الحصيلة ان احدا لم ينزح من اي محافظة تعرضت للقصف، وخصوصا صنعاء، وبقيت الناس في بيوتها، واستمرت الحياة العامة على حالها مع قدر بسيط من الحذر من باب الاحتياط، ثم خفتت الاصوات المعترضة ولم تعد تخرج اي مسيرة مناهضة للثورة، واظهرت الجبهة الداخلية تماسكاً في اطار  الجبهات الخمس التي عددها السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في اطلالته الاولى بعيد العدوان، محدداً ملامح استراتيجية المواجهة المقبلة، والتي اذا ما قورنت باستراتيجية العدو ستظهر تفوقها مقابل اخفاق الاخيرة وفشلها في تحقيق الاهداف المباشرة للعدوان. وهذا يطرح السؤال عن الكيفية التي سيتصرف بها "جار السوء" كما بات يسمي اليمنيون المملكة بعد هذه الاخفاقات الاربعة: هل تتراجع وتنعى قدرتها على الحسم العسكري، وتستسلم للقدر اليمني الجديد الخارج عن وصايتها وتذهب الى الحل السياسي الذي كاد يبصر النور في الموفمبيك بصنعاء برعاية اممية، ام تستمر في مغامرتها وتنطلق نحو المرحلة الثانية من المواجهة البرية وجها لوجه مع شعب وصفه القرآن الكريم منذ مملكة سبأ بانهم "أولي قوة وأولي بأس شديد"، ومن ثم تكون تلك المغامرة بداية مرحلة تغيير وجه الجزيرة العربية التي يبدو انها باتت قدرا محتوماً، والا لماذا وصف السيد عبد الملك النظام السعودي بـ"قرن الشيطان" واستخرجه من حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله في وصف بلاد نجد الذي قال فيه "انه يخرج منه الزلازل والفتن وقرن الشيطان" بعدما بارك اليمن والشام ثلاث مرات؟ والواضح ان كل الخيارات مرة ومريرة لهذه المملكة وحلفائها كما هي حلوة ومبشرة لليمنيين الصابرين والضاغطين الان على الزناد.