الثورات العربية: التحولات الغير مكتملة

منذ انتصارات الإسلاميين الانتخابية في تونس ومصر،والفترة الانتقالية الغامضة التي يمر فيها اليمن، ومنذالاعتراف   بالثورة السورية والغرق في الحرب الأهلية، منذ ذلك الحين، وانتهاء بقتل سفير الولايات المتحدة في ليبيا خلال هجوم شنه أتباع القاعدة في بنغازي سبتمبر 2012، حينها سمعت أصوات منددة تقول: "الربيع العربي"  تحول إلى " شتاء إسلامي" والزخم الديمقراطي في عام 2011 أدى إلى الفوضى العارمة والتراجع الاقتصادي ... أن الشاب الذي اشعل فتيل الثورات العربية في ديسمبر كانون الأول 2010 في مدينة سيدي بوزيد التونسية قد اشعل معه ايضاً آمال الاسلاميين في الحكم لشعوب قد لا تستحق هذه النهاية التي عاشت فترة قصيرة من الزمن بتفاؤل مفرط الحماس على متأمله أن الثورات العربية ستلبي طموحاتها وآمالها  والتي  ساهمت وسائل الإعلام في هذا التفاؤل والحلم الذي ولد في نهاية المطاف جنين مشوه ، في عمق هذه التحولات الخطيرة التي لم تحقق الا جزاء بسيطا من احلام الشعوب العربية .
هذا واضح جداً، ولكن لا بأس أن نتذكر جيداً : أن الثورات العربية هي جزء بسيط  من تحولات المنطقة المستمرة ونحن فقط في العام الثاني لهذه الثورات التي لم تكتمل بعد ، هذا ما أكده جان بيير فيليو، أستاذ العلوم البيولوجية ومؤلف كتاب الثورة العربية. والذي نشرعشرة دروس في الانتفاضة الديمقراطية ... حيث قال أن المنطقة  سوف تستغرق وقتاً طويلاً قبل أن يتم وضع نظم مستدامة للخروج من الصدمة الكبيرة التي سببتها خمسة عقود من الدكتاتورية سواء في مصر وتونس وليبيا أو اليمن ووصولاً لسوريا وحربها الأهلية – وهنا نطرح السؤال الذي يفرض نفسه (كيف يمكن التوفيق بين الدين والتعددية الطائفية والإسلام والديمقراطية، وحقوق الإنسان واحترام المقدسات؟)، ولكن أيضا عملياً (يجب أنشاء دستور قبل الانتخابات)؟
من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا الشرقية، والنماذج لا تخلو فبعد التحولات التي شهدتها بفترة من الفترات وعلى عكس أوروبا الشرقية، فإن التحولات العربية لم تأتي من فوق، ولكن من الأسفل حيث لاحظ جان بيير فيليو هذه الفترات لانتقالية بالنسبة لأمريكا اللاتينية  فتحولاتها المفصلية ليست نتيجة الثورات ، ولكن هو التكامل بين القوات المسلحة في السياسة والديمقراطية. أما في حالة العالم العربي فهذا مختلف جداً  نتيجة تركيبها الاجتماعي  المعقد فقواتها المسلحة قد لا تنسجم مع بقية الفئات ولمواجهة هذه الاضطرابات نحن بحاجة أكثر إلى فهم هذه التركيبة الاجتماعية .
ليصبح الانتقال الديمقراطي مكتملاً، يجب معالجة هذه الجوانب الثلاثة: الإصلاحات السياسية المتعلقة بالدستور والانتخابات ، وتنفيذ العدالة الانتقالية ، وأخيراً إصلاح الأجهزة الأمنية ، ولا بد من ظهور المجتمع المدني لخلق بيئة مواتية لظهور الديمقراطية الحقيقية في وقت قريب جداً لما بعد سقوط الطغاة ، وقد أصبحت الحاجة لإعادة النظر في القانون الأساسي واضح للتمكن  من إعادة بناء العقد الاجتماعي ، والتخلص من أي أدوات للهيمنة المطلقة التي  كانت تستخدم لقمع وإذلال الشعوب،  ففي ليبيا مثلاً  كان اعتماد دستور واحد من المطالب الرئيسية للثورة وقد اغضب ذلك القذافي ونظامه التعسفي مما يدل أن الحكومات الديكتاتورية لا يعجبها تنفيذ مطالب شعوبها وتلجأ للقمع في أغلب الحالات .
ولكن كيف يمكن إحداث تغيير وتجنب حدوث فراغ في السلطة؟ ينبغي إجراء الانتخابات قبل الدستور أو انتخاب جمعية متخصصة لصياغة القانون الأساسي؟فمثلاً  اختارت مصر المسار الأول والثاني في تونس، . إن الطريقة المصرية التي اختارها الجيش على أمل تشكيل حكومة قوية قادرة على إنهاء العملية الثورية، دفعت جماعة الإخوان لتسلم السلطة. ولكنها أيضا حاملة للمشروع الاجتماعي (وفقا للإسلام) بحيث أنهم يريدون إقرار التطرف في القانون وذلك هو العودة إلى المربع الأول: نحن بحاجة إلى دستور ليتمكن الجميع من فهم قواعد اللعبة ويتم وضعها لمرة واحدة وإلى الأبد ليفهم كلاً دوره بالمدنية والعسكرية، ولخلق العدالة بين المتدينين والعلمانيين، وبين المسلمين وغير المسلمين وغيرهم  ومصر قد فقدت خلال عام ونصف العام هذه العدالة ، وكما يقول جان بيير فيليو أنه يجري التركيز على الإسراع في إضعاف الجيش العربي بشكل عام  خلال هذه الفترة.
في تونس، اختارت البلاد المسار الثاني  لإحداث تغيير جذري في مارس 2011 ولتحقيق الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، برئاسة عياض بن عاشور وقد تم وضع القواعد الأساسية من قبل الجمعية التأسيسية التي اعضاءها هم من الحكومة الحالية  التي سمحت للانتخابات في أكتوبر 2011 ، وبنهاية العام سيتم إنشاء الدستور الذي لم يحترم  والذي جعل  البلد يدخل في مجال الاضطرابات.  لقداستبقت الفترة الانتقالية عن طريق أحد الأطراف السياسية ، يقول جان بيير فيليو:  في محاولة للدفاع عن مصلحته يقوم هذا الحزب بتكرار أخطاء الحكومة السابقة مما قد يضعف معسكر الإسلاميين، مما يسبب قلقهم حول فقدان الانتخابات المقبلة.
في ليبيا، تم احترام المواعيد المحددة رغم الثغرات الواضحة في مجال الأمن والسيادة بسبب حكم الميليشيات. وتم إنشاء المجلس الوطني الانتقالي (CNT) ورئيسها مصطفى عبد الجليل، كما وعدت جمعية منتخبة برئاسة محمد المقريف والتي يشكل فيها الإسلاميين الأقلية. نتيجة تبدو أكثر صعوبة لتشكيل حكومة قادرة على تجسيد النظام (ونزع سلاح الميليشيات)، وإقرار المصالحة الوطنية، ومعالجة المسائل الأساسية التي طرحها الشعب (الشريعة أم لا الفيدرالية أو اللامركزية، وما إلى ذلك...)
في البلدان الثلاثة، احتكر فيها مناقشة مسألة دستورية :النقاش حول الهوية الدينية التي تؤثر أيضا على حقوق الأقليات الدينية والأحوال الشخصية والمرأة. ولكن ما وراء ذلك كله محاولة السلفيين بقوة على الانقلاب  على الاتفاقيات لما قبل الثورات وقمع الأقليات ، تجدر الإشارة إلى أنه في تونس ومصر، الأحزاب الإسلامية التي في الحكومة اعتمدت أخيرا الوضع السابق للحكومات السابقة وتخلت (مؤقتا؟) عن فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية وعن القضية الفيدرالية، ولا سيما في ليبيا التي لا تزال من المحرمات الكبرى.
في مجال العدالة الانتقالية وإصلاح الآلة القمعية التي كانت أقل تقدما في الأنظمة السابقة  ففي مصر واليمن ، مازال أسر "شهداء" الثورة ينتظرون العدالة. وفي تونس ومصر مسرحيات لمحاكمات سريعة للطغاة مما يشكل الإحباط لدى الشعوب.. القضاء الأجهزة الأمنية  لا تزال تنتظر دورها في التطهير والتنقية ، خاصة وأن قوى جديدة تحتاج لاستعادة النظام ووضع شرعيتها.
في مصر وتونس واليمن : أمن الدولة - المسمي الأمن القومي - لا يزال نشط في الوراء بحق نشطاء الثورة وتزايد الحوادث وملاحقتهم ، وتفشي العنف في الساحات ، والمآسي مثل استاد بورسعيد (74من المشجعين قتلوا),أخيراً  الفضيحة الأخيرة باغتصاب امرأة من قبل الشرطة التونسية يوضح صعوبة تغيير العادات السيئة للأنظمة السابقة، بالرغم أن من  يرأس وزارة الداخلية هوسجين سياسي سابق. وأخيرا، في ليبيا، وظروف احتجاز سيف الإسلام القذافي، نجل الرئيس السابق، لا تبشر بالخير ولا لوجود عدالة نزيهة.
مما يثير المجتمع المدني الثوري الحقيقي ، ولتخديرهم واسكاتهم وعلى سبيل الترضية تتم  ولادة جمعيات المعونة المتبادلة، والأحزاب السياسية، والنقابات العمالية والمنظمات والمبادرات الشبابية في كل يوم  لإجهاض المطالبات الشعبية,وللإبقاء على  القبلية في اليمن وليبيا، وإعادة علاقتها بالسياسة.,وتهميش المجتمع المدني جنبا إلى جنب مع وسائل الإعلام الرسمية التي تساعد على تخدير الشعب مرة أخرى ،كما كانت تفعل مع الأنظمة القديمة.. جان بيير فيليو متفائل بحزم حيث يقول : "تسارع المجال السياسي وبناء المرحلة القادمة لا يضمن هيمنة الإسلاميين فقد بدأت تتضح عوراتهم سريعاً ومن المفارقات، أنه في سوريا، حيث الاشتراكية الشمولية هي الأقوى، والأكثر شعبية وانتشاراً  فلا يوجد هناك بصيص أمل في انتقال السلطة للإسلاميين  وإذا كانت فستكون طويلة وصعبة.
كريستوف عياد (صحيفة لوفيكاغو الفرنسية