“الحقيقة اليمنية”… كيف صار الإعلام اليمني شوكة في حلق إعلام “القطيع التائه”؟ ( تقرير )

“إن القتيل الأول حينما تُقدم الحرب هو الحقيقة”، تختصر جملة الأديب الإنكليزي “صمويل جونسون” صورة التعاطي الإعلامي مع العدوان على اليمن، وتستعيد نظرية “القطيع التائه” التي صاغها الفيلسوف الأميركي نعومي تشومسكي ليفسر كيف يحوّل الإعلام الرسمي المهيمن الجمهور في الحروب إلى “قطيع تائه” لا يعرف شيئاً إلا ما يقوله هذا الإعلام.

 

لقد حوّل الإعلام السعودي الجمهور العربي والعالمي إلى “قطيع تائه”، ليمعن في قتل حقيقتين دون أن يهتدي أحد للجريمة: حقيقة ما وراء الحرب وحقيقة المجازر المدنية التي ارتكبها العسكر السعودي. إلا أن الإعلام اليمني بقي وحده طوال عام كامل يهز ضمير القطيع التائه بيد ويرد على آلة الحرب السعودي بيد أخرى.

 

كيف خاض هذا الإعلام حربه؟ وكيف صاغ روايته؟ وكيف شكل شوكة في حلق إعلام “القطيع التائه”؟

 

أكثر من 30 شهيداً إعلامياً كانوا شهوداً على الحقيقية، قدمهم الإعلام اليمني ضريبة مواجهة حقد عمره من عمر تأسيس “مملكة الكراهية”. الرواية اليمنية الموّثقة بالصورة ظلت تعرّي الوحشية السعودية، وتحكي قصص البسالة اليمنية، وتفضح زيف دعاية العدوان الكاذبة، لم يمت اليمنيون، ولم تمت الحقيقة، بفضل الإعلام اليمني الذي تصدرت قائمته “قناة المسيرة” إلى جانب الإعلام الحربي، ليشكلا المصدر الخبري الأول في اليمن.

 

الإعلام الحربي

 

يعود عمر تجربة الإعلام الحربي في اليمن إلى العام 2007، تحديداً إلى الحرب الرابعة التي امتدت من كانون الثاني/يناير وإلى حزيران/يونيو. قادت تلك التجربة إلى اعتقال الشهيد عبدالكريم الخيواني يومها، على خلفية توزيعه لأقراص مدمجة (سيديهات) عليها مشاهد مصورة من المعارك.

 

يتحدث  المسؤول بالاعلام الحربي اليمني “أبو عماد” عن انطلاق العمل “بجهود بعض الأخوة المجاهدين”، اشترى هؤلاء يومها “بعض المستلزمات البسيطة والمتواضعة للتصوير وإنتاج المواد. وقاموا بتصوير مشاهد للحرب، منها مشاهد استهداف المساجد من قبل السلطة آنذاك والدمار الذي لحق بالبيوت وبعض الجرائم التي ارتكبتها السلطة بحق المواطنين”.

 

وثّق الإعلام الحربي انتكاسات الجبهة المضادة: استهداف لدبابات وعمليات الاقتحام والغنائم التي كان يخرج بها مقاتلو أنصار الله بعد كل عملية. “كنّا نستفيد مما رأيناه في إعلام حزب الله الذي اعتبرناه نموذجاً للإعلام الحربي”، يقول “أبو عماد”.

 

حتى اليوم يقتصر عمل الإعلام الحربي على “التغطية الميدانية”. ترافق الكاميرا المقاتلين في جبهاتهم، يصطحبونها في عمليات التقدم والاقتحام، فتسجل مشاهد دك المواقع السعودية وفرار “مرتزقة” العدوان.

 

المشاهد المسجلة في ميادين القتال تُحال إلى الفرز حيث يجري العمل على “مَنتجَة” المشاهد الصالحة للنشر، قبل أن يجري تزويد الهيئة الإعلامية لأنصار الله وقناة المسيرة ، وقناة اليمن الرسمية بها، لتقوم هذه الجهات بنشرها عبر وسائلها المتعددة”، وقد شكلت هذه المواد عامل تغذية مهم لبعض الصفحات والحسابات النشطة على مواقع التواصل الاجتماعي.

 

مشاهد انتصارات المقاتلين اليمنيين في محافظات نجران، وجيزان، وعسير، التي تنقلها عدسة الإعلام الحربي، كانت تعيد الحياة إلى “الحقيقة” اليمنية، تعزز الصمود وترفع معنويات الشعب، وتثبّت انجازات الجيش واللجان الشعبية. لم يكن الإعلام الحربي في اليمن يملك أي موقع رسمي أو صفحة إلكترونية، شيئان فقط يملكهما: الكاميرا والحدث، ليعيد صياغة الحقيقة كي لا تقتلها الحرب.

 

قناة المسيرة

 

وفي الوقت الذي شكّل فيه الإعلام الحربي الجندي الخفي في المعركة الإعلامية، كانت قناة المسيرة بشعارها “صدق الكلمة” تتصدر قائمة المواجهة، لتكسر جمود صورة “القطيع التائه”.

 

لا تستند قناة المسيرة إلى تجربة إعلامية عريقة، القناة اليمنية انطلقت منذ العام 2012 كقناة محلية بعد سنوات كان فيها الإعلام محرّماً على المنتمين لأنصار الله. حملت “المسيرة” على عاتقها نقل حقيقة الواقع الذي يعيشه المجتمع اليمني وما يجري عليه.

 

بدأت القناة مسيرتها الإعلامية على أساس قاعدتين: أن لا مجال لكذب أو لشتم، انطلقت القناة اليمنية من نقطة الصفر وبدون أي مقوّمات، واستمرت إلى اليوم لتحجز لنفسها مكاناً في العالم الإعلامي الواسع، بكادر بشري يشكل 70% مما تتطلبه القنوات الأخرى.

 

“كانت لحظة غادرة لم يتوقعها أحد”، تختصر عبارة مدير عام قناة المسيرة “إبراهيم الديلمي” كل ما يمكن أن يُقال عما استشعره اليمنيون بعد إعلان الحرب على بلادهم.

 

بعد اللحظات الأولى من إعلان العدوان، اجتمع المعنيون في قناة المسيرة، ينقل مدير “المسيرة” في حديثه لموقع المنار ماجرى: “قلنا يومها إننا أمام وضع خطير، ويجب أن نعمل وفق المعطيات الجديدة، وأن الحرب هذه ستطول، كان هذا واضحاً أمامنا منذ اليوم الأول… وكنّا على دراية بأن الأمر يتطلب الكثير من الجهوزية. وقبل أيام من اندلاع العدوان كان لدينا توجس من اندلاع حوادث أمنية داخلية، لذلك كانت خطة الطوارئ معدة سلفاً”.

 

في الأيام الأولى، طالت الوحشية مكتب “المسيرة” في صعدة فدمرته بكامل معداته، وسرعان ما عمل فريق القناة على تفريغ مكتب صنعاء من العاملين ومن المعدات التي تعطّل جزء منها وتضرر جزء آخر جراء عملية النقل… شكل ذلك تحدياً صعباً في ظل ظروف الحرب، وزاد التحديات تعقيداً مسألة انتشار فريق عمل في أماكن مختلفة، إذ كان العمل يتم من مكاتب عمل احتياطية، فيما كان آخرون ينجزون تقاريرهم من منازله.

 

انقطاع الكهرباء والاتصالات الذي رافقه قصف الجسور والطرقات شلّ شبكات التواصل والمواصلات في اليمن، وأثر ذلك في وصول المادة الإعلامية وفي التواصل بين القناة ومراسليها. استخدم المراسلون مجموعة من أجهزة الثريا ومن أجهزة البث الفضائي. وتم توفير مولدات كهربائية لانتاج التقارير الاخبارية، جهود الإعلام الحربي حضرت هنا لترفد “المسيرة” بحقيقة الوضع على الجبهات المشتعلة على الحدود، وفي المواجهات مع “المرتزقة” بالداخل.

 

في مواجهة حرب الكراهية وكي لا تُقتل “الحقيقة”، أخذت “المسيرة” على عاتقها تحقيق هدفين:

 

- إظهار مظلومية الشعب اليمني وحجم الجرائم المرتكبة بحقه، وتعرية مدعي الدفاع عن حقوق الانسان والديمقراطية، واثبات أن العالم لا يُدار إلا بالقوة والمال.

- إبراز حجم الانجازات التي قدمها أبناء اليمن في مواجهة العدوان، وإظهار صورة المقاتل اليمني وهو يدوس بقدميه الحافيتين الأراضي الخاضعة للسيادة السعودية.

 

“رأينا العسكري السعودي الذي أُلقي به في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل وهو يولي الأدبار، كما أظهرنا بطولات الجيش واللجان الشعبية في تدمير الآليات والطائرات البارجات التابعة للعدو”، يقول الديلمي.

 

وفي سبيل “الحقيقة” نفسها قدمت قناة المسيرة ثلاثة شهداء خلال العدوان، بعد شهيد قضى قبيل الحرب: هاشم الحمران، وبلال شرف الدين، وعبدالله الكبسي ثلاثة شهداء إلى جانب زميلهم الشهيد خالد الوشلي تزيّن صورهم مكتب المسيرة، وصفحة موقعها على شبكة الانترنت. لم يكتفِ العدوان باستهداف فريق المسيرة، بل إنه لاحق البث، فتعرضت “المسيرة” لعمليات تشويش و7 عمليات حجب، إلا أنها استمرت بالبث عبر القمر الروسي ومن مدار النايل سات. لم تتوقف الحرب على “المسيرة” هنا، إذ عمد السعوديون لاستنساخ قناة معتمدين “لوغو” المسيرة نفسه، وحاكوا الاستديوهات نفسها ليبثوا أخبارهم الكاذبة، كان ذلك كافياً ليُشكل اعترافاً بالدور الذي حققته “المسيرة” وبالمصداقية التي تحلت بها.

 

هزمت صورة الإعلام الحربي ورواية “المسيرة” العدوان، كانت تخاطب وعي اليمنيين وتشد من عزمهم، الجمهور السعودي حاضراً في حسابات الإعلام اليمني أيضاً، كسرت الصورة والرواية اليمنية مشهد “القطيع التائه”… وحوّلت “الحقيقة” من كونها قتيلاً مفترضاً إلى قاتل لحرب الكراهية.