لهذا السبب لا يمكن نشوب حرب أهلية مذهبية في اليمن

تتهاوى حصون القاعدة. تنظيم "أنصار الشريعة" يذوق مرارة الخنجر الحوثي الذي يقترب سريعاً بعد "رداع" إلى القطع في جبل شبر ليفصل وريد مديرية "العرش" عن شرايين مديرية "قيفة" معلناً بذلك اقتراب "أنصار الله" من وسط محافظة البيضاء، معقل مقاتلي تنظيم القاعدة الأخير في مناطق شمال اليمن.

المعركة بلا شك تفتح الباب أمام جملة تساؤلات حول ما ستؤول إليه الأمور فيما لو أكملت "أنصار الله" مع تنظيم القاعدة ما بدأته مع خصومها الذين أوغلوا في دماء مناصري الحوثيين ومؤيديهم. فهل تواصل نحو شبوة، أولى محافظات الجنوب، ومعقل قادة تنظيم القاعدة؟ أم تكتفي بتثبيت قوتها في المناطق الشمالية وتعزيز تحالفاتها في المحافظات الاستراتيجية على ساحل البحر الأحمر؟

وإذا كان العالم كله يبحث اليوم عن أجوبة عن تلك التساؤلات لعلّها ترسم ملامح مواقفها المستقبلية وعلاقتها مع دوائر التأثير الحيوية في السياسة اليمنية، فإن الجنوبيين في اليمن اختصروا المسافة وأعلنوا أن رغبتهم في الانفصال لم تخف حرارتها يوماً، بل أصبحت بفعل ما يحصل اليوم غضباً تعبّر عنه في الشارع منذ الذكرى الـ51 لثورة الرابع عشر من أكتوبر، وقد أعلن الأمين العام لحزب الشعب الديموقراطي اليمني صلاح الصيادي أن تحركات المطالبة بالانفصال ستتوج في الـ30 من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل فيما يسمى بيوم الاستقلالين.

لكن الصيادي لا ينفك يتهم الحوثيين بجرّ اليمن نحو فتنة مذهبية ستشعل شمال اليمن بنارٍ لا يريد الجنوبيون امتدادها إليهم. وعلى مثل هذا تدأب الصحف السعودية بالربط والتحليل.. والتهويل، ولكن..

لا تنبت شجرة المذهبية في أرض القبائل

عشر سنوات على إطلاق أول سهم حرب على الحوثيين في صعدة، قبل أن تبلغ الحروب عليهم حلقاتها الست في تسع سنوات قبل خروج علي عبد الله صالح من الحكم. وبرغم ذلك، لم تندلع الحرب الأهلية في اليمن بين الزيديين الشيعة وأهل السنّة. ولمن يقرأ تاريخ اليمن يدرك أن الكلمة الفصل فيه هي للقبيلة أولاً وأخيراً، وليس للمذاهب. وعلى سبيل المثال: إن حركة "أنصار الله" في عمران نجحت في استقطاب قبائل همدان المناهضة لبيوتات المشيخ في قبيلة "حاشد" وتحديداً آل الأحمر، برغم أن هؤلاء أيضاً من همدان، وهو الاستقطاب الذي مهّد لتحالف ساهم في سيطرة الحوثيين على عمران. وهكذا، فإن تمدد تحالفات الحوثيين لتشمل أبرز وجهاء القبائل اليمنية من همدان ومذحج وبني تميم وخولان والهاشمية والمعافر وكندة وغيرها، أعطى للحوثيين قوة لا يمكن أن تقاس بمقادير المذهبية. وهي تحالفات تأسست بفعل العوامل التالية:

• هيمنة قبائل معدودة على مقدرات اليمن خلال العقود الطويلة الماضية، وتحديداً آل الأحمر من حاشد. إذ إن معظم الوظائف الحساسة تم توزيعها على أبناء الأحمر ومواليهم، على حساب بقية القبائل من جميع المذاهب.

• إغداق المملكة العربية السعودية وجهاء بعض القبائل بالأموال، إذ بحسب تقارير رسمية فإن رئيس مجلس النواب الراحل عبد الله الأحمر كان يتقاضى في حياته من الرياض راتباً شهرياً بقيمة 1،86 مليون دولاًر!!! وهذا ما قرّب قبيلة حاشد إلى السعودية وجعلها صاحبة حظوة، وأيضاً على حساب البقية.

• إن سوء أداء الحكومات اليمنية المتعاقبة وفسادها وتمييزها بين القبائل، أفقد الأخيرة الثقة بجميع الوجوه التي حكمت اليمن سابقاً وما زالت، وهي بمعظمها وجوه قبلية وليست مذهبية.

• شكّل صدق الحوثيين ووفاؤهم بالتزاماتهم مع حلفائهم من بقية القبائل عاملَ استقطابٍ كبيراً رأت فيه القبائل بصيص أمل لتغيير الواقع السيئ، وتحديداً في تصدي الحوثيين للعناصر التكفيرية التي شنّت وما زالت هجمات وحشية على العسكريين في الجيش من أبناء القبائل.

• إن العُرف القبلي السائد يقول إن القبائل تتحلق حول الجهة التي تسجّل انتصارات كبرى على الأرض، وذلك بهدف تشكيل قوة متماسكة تصمد بوجه التحديات، وهذا ما فعله الحوثيون في انتصاراتهم المتتالية.

وعليه، فإن التهويل بحرب مذهبية، كما يقول الكاتب اليمني "حمدان الرحبي" لموقع الـ"العهد" ليس إلا آخر الأماني لمفلس لم يعد يجد في جعبته ما يواجه به الحوثيين.

الحراك الجنوبي يقطع الطريق أمام "لصوص الشارع"

يسهب "الرحبي" في تعداد العمليات الأمنية التي يشنها تنظيم القاعدة يومياً على ضباط وجنود الجيش اليمني في الجنوب، كان آخرها تفجير عبوة ناسفة بسيارة العقيد ناصر مقيلح الذي يعمل في شعبة الاستخبارات العسكرية التابعة للمنطقة العسكرية الرابعة، كان ذلك مباشرة بعد إعلان جماعة "أنصار الشريعة" التابعة للقاعدة أنها قتلت 5 جنود في تفجير عبوة أخرى زرعتها في مدينة عزان. وهكذا تحوّل تنظيم القاعدة، بحسب "الرحبي" إلى أول أعداء الجيش اليمني منذ ما قبل قتال الأخير جنباً إلى جنب مع مقاتلي اللجان الشعبية وحركة "أنصار الله" ضد مقاتلي القاعدة.

ويقول: "لكن المؤسف أن الجنوب، الذي أُضعف فيه نفوذ القبائل منذ منتصف القرن الماضي أثناء تولي الأحزاب السياسية حكم الجنوب قبل الوحدة، لا ينظر إلى القاعدة على أنها التهديد الأخطر. فبعض الأحزاب الراغبة في الانفصال، تعتبر أن استهداف الجيش اليمني سيُضعف في النهاية تأثير الحكومة المركزية ويمهد للانفصال، وهذا هو أسخف أسلوب في التفكير – بحسب تعبير الرحبي – لأن الانفصال حينها لن يكون لصالح الأحزاب السياسية وإنما لصالح الجماعات التكفيرية".

"الحراك الجنوبي" ليس غائباً البتّة عن هذا النقاش. فبحسب مصدر قيادي فيه، لا يمكن لأي جنوبي إلا أن يتحسس الخطر الناجم عن تعزيز تنظيم القاعدة لحضوره في جنوب اليمن خلال السنين الماضية، و"نحن كجنوبيين نواجه هذا الخطر بالسلاح منذ عشر سنوات وحتى الساعة، لكن الإعلام بعيد عنا تماماً بشكل متعمّد".

وحول دعوة الحراك الجنوبي الأخيرة إلى التظاهر في عدن للمطالبة بانفصال الجنوب، يقول المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته: "لقد بدأت دوائر إقليمية عربية تستخدم أدواتها التي تم شراؤها في الجنوب لسرقة الشارع المؤيد للحراك الجنوبي، وذلك ليس بهدف تحقيق الانفصال وإنما لمواجهة خطر وصول الحوثيين إلى تعز وعدن عليهم، وهذا ما نعرفه وندركه جيداً، لأن تلك الدوائر لطالما نكّلت بكل جنوبي كان يدعو للانفصال وتواجهه بالقتل أو السجن حين أصبح معظم رموز الجنوبيين منفيين خارج اليمن. اليوم، يريد الحراك أن يثبت للجنوبيين أنه ما زال جزءاً منهم ومن معاناتهم، وفي نفس الوقت يثبت للعالم أن الشارع الجنوبي حين يتحرك لا يكون قزماً هزيلاً كالذي رأيناه منذ نحو أسبوعين".

وإذ يعترف المصدر الجنوبي أن الانفصال يحتاج إلى أكثر من تحرك شعبي، وتحديداً إلى قرار دولي وإقليمي، وهذا ما هو غير متوافر حالياً، فإن الجنوبيين بلا شك يترقبون باهتمام شديد معركة البيضاء، التي تفرض عليهم رص الصفوف وليس التفرقة، لأن نهاية المعركة ستكون حتماً، بغض النظر عن النتيجة، وبالاً على الجنوب الذي ما زالت خلايا تنظيم القاعدة تنشط فيه بشكل متزايد، فإن رجحت كفتهم في البيضاء سيعززون حضورهم العلني في الجنوب أكثر، وإن انكسروا أمام الحوثيين سيحاولون التعويض ضد الجيش في الجنوب ويحولون المحافظات الجنوبية إلى نقاط تجمّع لشن عمليات مضادة على وسط وشمال اليمن، وفي الحالين سيكون المواطن الجنوبي الخاسر الأول.

وهكذا، فإن التلويح السعودي بحرب أهلية مذهبية في اليمن لا يمكن أن يتحقق، فالحرب بين اللجان الشعبية و"أنصار الله" والجيش ضد تنظيم القاعدة لا يمكن أن يكون توصيفها حرباً بين الشيعة والسنّة، فهذا لم يحصل حين كانت المعركة محصورة فقط بين الحوثيين الزيديين وحزب الإصلاح الإخواني. وإذا كانت حسابات القبائل الشمالية مختلفة عن حسابات الجنوبيين السياسية، إلا أن حقيقة واحدة لا يختلف يمنيّان عليها: ما بعد معركة البيضاء لن يكون أبداً كما كان قبلها.