السلاح هو الفيصل على طاولة الحوار القادم فُوَّهات و أفواه

يوجد على الساحة اليمنية –في اللحظة الراهنة- تنظيمان سياسيان مسلحان على نحو يصح معه القول إن كلاهما يمتلك جناحه العسكري المؤدلج العقائدي والمنضبط لقيادة مركزية تراهن عليه في ضمان وجودها السياسي وتوسيع نفوذها.. هذان التنظيمان هما حصرياً: "الإخوان المسلمون" و "أنصار الله – الحوثيون"..
كلا التنظيمين اكتسب قوته العسكرية، التي تشمل أسلحة متوسطة وثقيلة ومضادات دروع وعربات ونظم اتصالات داخلية، من الغياب شبه الكامل لدولة مركزية تحتكر العنف وحضور سلطة مراكز قوى بديلة للدولة يتشاطر أطرافُها حصصاً متفاوتة من العنف ومصلحة واحدة متمثلة في استمرار احتكار الحكم..
غير أن الموضوعية تقتضي الإشارة إلى أنه في الوقت الذي انتفع فيه "الحوثيون" من غياب الدولة ليصبحوا قوة عسكرية، فإنهم كانوا –منذ البدء- ضحايا لغيابها ومتضررين من حضور سلطة مراكز القوى، خلافاً لـ "الإخوان المسلمين" الذين نشأوا كحليف تاريخي رئيس لهذه السلطة منتفعين –بتعبير أدق- من تغييب مشروع الدولة لا من غيابها..
لقد كان "الإخوان المسلمون" في علاقتهم بسلطة صنعاء أشبه بـ "الحجاج بن يوسف" في علاقته بـ "عبدالملك بن مروان" وكالحال مع هذا الأخير فإن حاجة سلطة صنعاء "للإخوان" كعصا غليظة تضرب بها خصومها، ترافقت مع حاجتها لكسر هذه العصا في اللحظة التالية لبلوغ السلطة مأمنها وبعد أن تكون قد قضت وطرها منها، لكن هذه اللحظة عندما حانت في 1994، كان "الإخوان" قد تسرّبوا كالنمل إلى أدق مفاصل السلطة والدولة متقاطرين من شروخها الخلفية، إلى درجة يصعب معها إزاحتهم بـ"فرمان رئاسي"..
بإختصار كانوا قد أصبحوا مركز القوى الأبرز في "ترويكا سلطة صنعاء"، ولم يعودوا حليفاً ثانوياً يمكن تعيين مساحة نفوذه وتطويقه وتجريده من المزايا الممنوحة له كحليف.
وإذا كانت "السعودية" إقليمياً هي مربط فرس توازنات الحكم في اليمن، فإن الحروب الست في صعدة، والتي دُشنت بقرار إخواني في الغالب، كانت بمثابة لفت نظر كارثي أراد "الإخوان" من خلاله تحذير "الرياض" من مغبة الركون إلى "صالح" أو التعويل عليه؛ وتأكيد أنهم لا يزالون الحليف الأكفأ والأبرز لها، رغم درجة الحُظْوَة التي بلغها "صالح" لدى المملكة عقب ترسيم الحدود معها في 1999م وتفريطه بحوالي ثلث المساحة الطبيعية لليمن، مقابل استعادة علاقة حميمة بينهما عكَّر صفوها وقوفه إلى جانب "عراق صدام" في 91، و وقوف السعودية إلى جانب "البيض" في 1994م..
على مسارٍ موازٍ هيأ انخراط "صالح" في الحملة على ما يسمَّى "الإرهاب"، مناخاً ملائماً له ليضع "الإخوان" تحت رحمته، أو هكذا كان يعتقد، كما تبين لاحقاً، فهؤلاء بدورهم كانوا بارعين في الانحناء لعواصف ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وتوثيق صلاتهم بالإدارة الأمريكية عبر جملة تحولات نظرية أحدها الانضواء في تحالف سياسي مع اليسار والقوميين، و ولوج سوق منظمات المجتمع المدني والمضاربة في مزاد الحريات العامة وحقوق الإنسان، وفي الظل كان "الإخوان" يفعلون "ما ينبغي فعله" لزعزعة ثقة الأمريكيين بجدارة "صالح" في الحرب على الإرهاب، مستعينين في ذلك بمجاميع "الأفغان العرب" الذين وفَّرت لهم "الجماعة" –على الدوام- الأغطية الاجتماعية الملائمة لمزاولة حياة طبيعية إلى حين الحاجة إليهم...
في غضون عقود التحالف "الإخواني السلطوي الحميم" الممتدة منذ انقلاب نوفمبر 1967م الذي مثَّل نهاية لحضور مصر الناصرية في شمال اليمن وبداية قوية لتغوُّل النفوذ السعودي، كان الهاشميون "من غير آل حميد الدين" يعيشون كرعايا من الدرجة الثالثة قياساَ بكبار الشيوخ والعسكر، حتى مع حصة النفوذ القَضَوِي المخصصة لهم بموجب "المصالحة الجمهورية – الملكية" التي تبنتها المملكة السعودية مطلع سبعينيات القرن الفائت..
لقد كان الهاشميون بطبيعة الحال بمثابة قوة نظرية ناعمة ملحقة برموز المشيئة السعودية الناهضة في اليمن ومجردة من كل أسباب البأس، وعدا "توزة و قاوق مهيبين وفولكلوريين" ما من شيء يدل عليهم..
وفيما كانت الكليات والمعاهد الأمنية والعسكرية مشرعة أمام كوادر "الإخوان المسلمين – مشائخ وقبائل وطلاباً" كانت الزيدية والشافعية تنحسر وتخمد مراكز إشعاعها لحساب تغوُّل "الوهابية السياسية" بأربطتها ومراكزها ومعاهدها الزاحفة على شمال الشمال وجنوبه..؛ وكان حلم بناء دولة المواطنة –في الأثناء- يذوي ويضمر بتنامي نفوذ قوى الظل التي كان الأداء الحكومي انعكاساً لإرادتها وتعبيراً مباشراً عن مصالحها، في معظم مراحل الحكم في الشمال وحتى اللحظة الراهنة..
إن الإقرار بغياب دولة المؤسسات القائمة على مبدأ المواطنة، هو إقرار بحضور مراكز القوى المستحوذة على وظائف الدولة بصفة غير شرعية والعاملة لمصلحة فئة أو جماعة أو طبقة بعينها بمنأى عن المصلحة العامة للغالبية، وهكذا فإن قوة الحضور السياسي لجماعة ما تساوي تماماً مساحة حضورها في غياب الدولة، فيما تتلاشى إمكانية نشوء أحزاب بالمفهوم الحديث لصالح تنظيمات "مافوية" تعمل على تكبيل الرعايا كقطعان وتقديمهم قرابين على مذبح مراكز القوى باستغلال حاجاتهم الدنيا وهذا هو الدور الذي لعبه تنظيم الإخوان وبرع فيه طيلة عقود الحكم التالية لثورة 1962م.
إن "الإخوان" كتنظيم "مافوي مليشي مسلَّح" ترعرع وتصالب عوده، بالتَّخَنْدُق التاريخي في السلطة ضد خصومها من مكوِّنات الحركة الوطنية المناضلين في سبيل بناء دولة حديثة بعقد شراكة عادل، عاجزون اليوم وبالقصور الذاتي عن الانتقال إلى موقع نقيض للموقع الذي تخندقوا فيه تاريخياً، وعاجزون عن الاصطفاف الصادق مع المطالب العادلة والمشروعة لغالبية الناس..
إن مثل هذا الانتقال والاصطفاف مستحيل –بالنسبة إليهم- استحالة أن تقايض قصراً بهيجاً بكوخ من القش، إلا على افتراض أن يبلغ "الإخوان" درجة السمو التي جعلت "بوذا" يغادر حياته المترفة إلى شظف العيش متشرداً.
إن معركة "الإخوان" مع "صالح" التي ركبوا لها ظهر الاحتجاجات الشعبية العام الفائت، لم تكن –بالإمعان فيها- معركة شارع في مواجهة سلطة غاشمة، بل معركة مركز قوى ضد مركز قوى آخر داخل السلطة ذاتها، بهدف تقاسم مكاسب محدثة راكمها "صالح" خارج رضا أطراف التوافقية التاريخية الحاكمة؛ بيدا أن "صالح" الذي احتمى بوحدات عسكرية نظامية واضحة للعيان، كان –كما تأكد لاحقاً- بمثابة الحلقة الأضعف في معادلة الحكم قياساً بـ "الإخوان" المدججين بترسانة عسكرية باطنية في الظل ويسعون حثيثاً اليوم لتفكيك ما تبقى من وحدات نظامية وضمِّها كقوة بَرَّانِيَّة مضافة إلى ترسانتهم..
قال "صالح" في 2006:لقد استخدمت الإخوان كورقة...و قال "اليدومي" في 2012: للقناة الإخبارية ذاتها إن "صالح " كان مجرد ورقة بيد الإخوان..و قبله أكَّد "علي محسن" أنه كان "الرجلَ الأول" في كل عقود حكم "صالح"...و هي سجالات تكشف طبيعة الحكم في الشمال عموماً..
إن تفكيك جيش نظامي ضخم أهون من السيطرة على مليشيات شعبية عقائدية صغيرة تختبئ في الجحور وتنشط في الظل، و افتقارنا في اليمن لجيش مؤسسي منضبط في مقابل وفرة الألوية الشعبية العسكرية العاملة بالمعيَّة والمليشيات العقائدية هو العقبة التاريخية الأبرز في طريق نشوء الدولة الحديثة وتحقيق شراكة سياسية بمكونات متكافئة..و لا أعتقد بأن "المجتمع الدولي!" سيقدم شيئاً لنا على هذا المستوى كما يراهن كثيرون.
إن المستقبل السياسي للبلد –في واقع كهذا- ترسمه الجماعات الأكثر تسلُّحاً لا الأحزاب الأكثر جماهيرية فهذه الأخيرة غائبة في المحصلة بغياب الدولة، والكفة المثقلة بالذخائر هي من سيكتب لها الرجحان في مؤتمر الحوار المفترض القادم...
إنه حوار الفوَّهات لا حوار الأفواه..

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 1 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.