حـمـلـة عـلـى الـحـمـلـة
لم يكن لأي تخطيط فني أو ميداني أن ينجح في إخراج فعالية حملة "أنا نازل" ضد عسكرة جامعة صنعاء على صورتها التي كانت عليه يوم الـ 12 يناير 2013. ولا يبدو أن عاملي العفوية والصدق اللذين تمتع بهما شباب وشابات حملة "أنا نازل" وحدهما من نجحا في إحراز تلك الصورة التي ستبقى عالقة في الذاكرة والتاريخ، ولكن هناك عوامل أخرى وقفت وراء ذلك النجاح بكل تأكيد.
منذ سنين طويلة والحضارة البشرية تحاول ترميم شكلها الحالي المنحوت على أنظمة سياسية واجتماعية وثقافية وتكنولوجية انتجتها قوى اتخذت من السيف أو العنف سبيلا للسيادة إلى شكل آخر أكثر انسانية يجلب شيئ من التوازن بين قوى السيف وقوى التعبير السلمي لصالح الأخيرة. ولازالت المحاولات مستمرة من أجل اعادة الاعتبار للنضال السلمي الذي أهملت بصماته في بناء الحضارة لأن قوة السيف حالت دون حدوث ذلك عبر سيطرتها المطبقة على كتابة التاريخ واللغة. وباستطاعتنا القول بأن حملة "انا نازل" الطلابية ضد عسكرة جامعة صنعاء تمثل إحدى هذه المحاولات.
الناظر إلى الصور أدناه للمصور الشاب شهدي الصوفي والمرفق في هذا المقال، سيجد نفسه أمام معركة يتصارع فيها فريقان وجها إلى وجه. الفريق الأول هو طلاب وطالبات جامعة صنعاء المدافعين عن موقف قوى التعبير السلمي. أما الفريق الثاني فهو العساكر المهاجمين نيابة عن قوى السيف. وعندما تكون المواجهة على هذا النحو من الفيزيائية والمكاشفة، يتخذ المشهد ملامحه من تاريخية الصراع بين قوى السلمية وقوى السيف.
التوقيت المعاصر للمواجهة بين طلاب وطالبات جامعة صنعاء وعساكر الفرقة الأولى مدرع، الذين يتخذون من الحرم الجامعي معسكرا لهم بعد أن قرر قائدهم الجنرال علي محسن الاحمر في مارس 2011 حماية الثورة ابتداءا من حماية ساحة التغيير بصنعاء التي أنشأت في دوار الجامعة والتي لسوء الحظ تجاور المعسكر الأصلي للفرقة الاولى مدرع. وكذلك وجود أدوات حديثة للتوثيق مثل الكاميرا الرقمية التي استخدمها شهدي الصوفي في تصويره. كل هذا لم يؤثر على ظهور المواجهة كمشهد سجل في التاريخ وليس في العام 2013.
لقد كان ذلك مشهد استثنائيا للغاية. فما أظهر فعالية حملة "أنا نازل" يوم 12 يناير 2013 وكأنها جزءا من التاريخ إنما أراد أن يستدعي الرمزية الحضارية للصراع بين القوتين، قوة التعبير السلمي وقوة السيف. وأراد أكثر أن يرسل إلينا تنويها عن حجم المهمة الانسانية التي يحملها طلاب وطالبات جامعة صنعاء في حملتهم "أنا نازل" نيابة عن قوى التغيير السلمي في اليمنيين والعالم عبر التاريخ.
لكن التاريخ ينسى أمورا كثيرة بالرغم من عظمتها وعظمة صناعها، لكنه أبدا لا ينسى أمور العسكر أو القادة العسكريين، الغزوات أو الموقعات(*) أو المعركات(**)، كما لا ينسى بالتحديد الحملات العسكرية.
في قرآتي القديمة، تعرفت على واحدة من أهم القواعد الذهبية لكتابة التاريخ أو التراث السياسي. قال وول ديورانت وزوجته اريل ديورانت في كتابهما الشهير"قصة الحضارة" وهما يحاولان فهم الأسباب التي اختارت شكل الحضارة بأنظمتها السياسية والاجتماعية والثقافية على هذا النحو الذي نراه اليوم دونا عن أشكال أخرى للحضارة لم يكتب لها النجاح في الوصول الينا: "السيف هو من يسود". إذاً وباختصار، نحن نعيش في عالم نحتت أنظمته وتاريخه وكلماته سيوفا كثيرة عبر الزمن. أما تلك الأنظمة التي حاولت أن تجد مكانا لها عبر التعبير أو النضال السلمي فقد سقطت مبكرا من السيادة ومن التاريخ ومن اللغة.
مثلاً، من يتذكر منكم المناسبة التي ارتبطت بمعرفته الأولى لكلمة "حملة"؟ لا يساورني الشك بأن الاجابة ستكون: "عندما قرأت أو درست أو سمعت بالحملة الصليبية. بعضنا سيتذكر تفاصيل أكثر من قبيل عدد الحملات الصليبية، أسماء القادة كالملك تشالرز قلب الأسد أو نضيره الناصر صلاح الدين. آخرون سيتذكرون رموز ورايات الحملة كصورة الأسد أو الصليب المذهب. قليلون جدا سيتذكرون اتفاقيات السلام أو الهدن. أكثر من هؤلاء القليلين سيتذكرون أسماء الأفلام العربية أو الاجنبية عن الحملة الصليبة ونجوم هذه الأفلام.
وربما ستقودنا عملية التذكر هذه عن ارتباط كلمة "حملة" بالضمير والوعي الانساني إلى تذكر حملات أخرى لا تقل أهمية عن الحملة الصليبية حدثت في فترات وأماكن متفرقة مثل حملات نابليون بونابرت والأسكندر المقدوني وجوليوس قيصر وحنابعل وغيرهم.
وبالفعل، فقد جرني هذا التفكير في كلمة "حملة" إلى الاعتقاد بأن كلمة "حمل" المستخدمة في اللهجة الصنعانية بمعنى جرى، أو جرى هربا، قد أتى بها رجل قديم خبر تجربة "الحملات" بغض النظر عن الجهة التي حمل إليها آنذاك: جهة العسكر أم جهة المواطنين.
لكن، ما بعد هذا الرجل التاريخي صاحب كلمة "حمل"، هناك جيل في صنعاء وغيرها من المدن اليمنية ينظرون بتمعن إلى صور حملة "أنا نازل" ويتأهبون للـ"حمل" غدا ضد بناء العسكر للأنظمة والكلمات. ولا أشك بأن تجربتهم في التعرف على "حملة" ستختلف عن سابقتها. هم سيؤمنون بأن "حملة" هي كلمة لم يستلها سيف ولم تأتِ فوق ظهور العسكر، بل ولدت من أصوات طلاب وطالبات جامعة صنعاء العام 2013.
--------------------
(*) موقعات: جمع مؤنت سالم لكلمة موقعة.
(**) معركات: جمع مؤنت سالم لكلمة معركة.
اللفظتان السائدتان بصيغة جمع التكسير (مواقع ومعارك) أختيرتا لأن عقل اللغة العربية العسكري لا يحتمل أن يؤنث جمع كلمتين عظيمتين مثل موقعة ومعركة.. يعني يكفي للمؤنث أن يكون مفردا والزايد معه!
- قرأت 447 مرة
- Send by email
أضف تعليقاَ