إحتفـــــــال بذكــــــــرى الفــــــــراغ الرئاســــــــي
الميدان الرئاسي الذي لا يملؤه رئيس حالي، يملؤه رئيس سابق. هذا هو على الأرجح العنوان الأكثر تلخيصا للإحتفال الجماهيري الذي أقامه الرئيس السابق علي عبدالله صالح في ميدان السبعين المجاور لدار الرئاسة في العاصمة صنعاء صباح اليوم الأربعاء.
الإحتفال كان بمناسبة الذكرى الأولى لتسليم صالح رئاسة البلاد لخلفه عبدربه منصور هادي في إطار ما يسمى بعملية التداول السلمي للسلطة التي أحتفى بها أنصار "الزعيم" ووسائل إعلامه. لكنه لم يبدُ في الواقع إحتفالا بذكرى انتقال الرئاسة من صالح إلى هادي قدرما بدا تذكيرا احتفاليا شامتا من الأول لليمنيين بأن الرئاسة لم تنتقل قبل عام منه إلى الأخير بل انتقلت إلى الفراغ.
هناك من خَلَفَ صالح في رئاسة اليمن، هذا صحيح. لكنه ليس هادي بالضرورة. الرئيس الحالي الذي يمكننا أن نعتبره خَلَفَاً لصالح هو الفراغ. ويمنحنا إحتفال الأربعاء ومكانه وتوقيته رمزاً ودلالة على هذا.
هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها ميدان السبعين مهرجانا جماهيريا حاشدا منذ المهرجانات التي كان المؤتمر الشعبي العام يقيمها أواخر عام 2011، أثناء تلقي رئيسه العلاج في السعودية مما لحق به في محاولة إغتياله منتصف ذلك العام. ومنذ تعرضه لمحاولة الإغتيال في مسجد "النهدين" المحصن وسط دار الرئاسة المجاور مطلع يونيو 2011، لم يعتلِ رئيس بعد صالح منصة السبعين الرئاسية ويلقي خطابا رئاسيا منها على الجماهير المحتشده أمامه في مناسبة وطنية أو غير وطنية باستثناء علي عبدالله صالح نفسه الذي اعتلاها اليوم بعد عام من تحوله رئيسا سابقا.
في مهرجاناته الجماهيرية التي حضرها كرئيس في ميدان السبعين عام 2011، كان صالح يحشد مؤيديه لمهاجمة الثورة وخصومه السياسيين ويرفض مطالب الثورة برحيله ساخرا منها في الغالب ومؤكدا على أنه لن يسلم السلطة سوى عبر الحوار وصندوق الانتخابات. وقد صدق صالح في ما وعد به بهذا الخصوص، صالح الذي لم تعرف اليمن في تاريخها المعاصر رئيسا أكذب منه صدق في آخر عام له في الرئاسة في كل ما وعد به لأن شركاءه السابقين في الحكم الذين ركبوا موجة الثورة ضد حكمه أثبتوا أنهم أكذب وأسوأ منه. فكانت المبادرة الخليجية التي اقترح هو مشروعها على صنوه المنشق عنه علي محسن الأحمر، وكانت الانتخابات الرئاسية التوافقية بمرشح واحد خلفه بنسبة 99 بالمائة و"كسور".
واليوم، في مهرجانه الأول في الميدان نفسه بعد عام من تسليمه الرئاسة، اعتلى صالح المنصة الرئاسية ليس بوصفه رئيسا شرعيا لليمن، بل بوصفه رئيسهم السابق الذي أصبح "زعيما" شعبيا لهم على ما يتمنى المطبخ الإعلامي التابع له. يبدو لقب "الزعيم" الذي اتخذه صالح لنفسه كتعويض عن لقب "فخامة الرئيس" مثيرا للسخرية لأنه يشير إلى رئيس سابق تنحى عن رئاسة الجمهورية إلى رئاسة حزب، إلى موقع لا يشبع رجلا كان في موقع أكبر فأستعاض عنه بلقب أكبر من لقب "فخامة الرئيس" الذي أجبرته الثورة والظروف على تسليمه لآخر. لكن السخرية المقترنة بهذا اللقب تَمَّـحِـي شيئا فشيا مع الزمن، زمن ما بعد الرئيس صالح، الزمن الجديد الذي لم يبد أنه قدم لموقع الرئاسة رئيسا من لحم ودم قدرما قدم رئيسا مرتعشا من دخان وخوف، رئيس لم يجرؤ يوما على الخروج إلى ساحة مشمسة لإلقاء خطاب على شعبه الخائف من قسوة وضراوة غياب الدولة.
صباح 21 مايو الماضي، اليوم السابق للذكرى الـ22 لقيام وحدة 1990، كان عشرات الجنود يؤدون التدريبات استعدادا للإحتفال بالمناسبة الوطنية التي كانت ستحجز لنفسها ذكرى خاصة في كل أعياد الوحدة السابقة كونها أتت بعد إزاحة صالح من الرئاسة وكون من سيعتلي المنصة الرئاسية ويحتفل بالمناسبة هذه المرة هو رئيس جنوبي لليمن يحتفل بالوحدة في صنعاء. لكن حادثا داميا ومأساويا فجر عشرات الجنود إلى أشلاء وأطاح بفرصة صعود هادي إلى المنصة.
لابد أن يحتاط هادي أمنيا، لكن الوقاية المفرطة تقتل أيضاً ولاسيما في وجود رئيس سابق تعرض لمحاولة إغتيال ضارية وأخذ يتعافى منها ويعاود ظهوره شيئا فشيئا كرجل واثق بنفسه وممتلئ بالحيوية. في تقديري الشخصي، صالح مهدد بخطر الإغتيال مجددا أكثر من هادي، فالأخير محمي على الأرجح من طيش الأطراف التي قد تكون وراء محاولة اغتيال صالح الفاشلة، لكن صالح لا يفوت فرصة للظهور وتأكيد وجوده.
في المقابل، يبدو هادي رئيسا مخبأ في خزانة، وهو كما يبدو يستمرئ هذا الوضع بدليل استمراره فيه، في وقت يظهر فيه خصومه الوجوديين علنا ويتحدثون إلى الناس. علي عبدالله صالح تحدث إلى الشعب بثقة بعد تنحيه أكثر مما فعل هادي، وهذا ما يمكن ملاحظته في خطابه اليوم مقارنة بخطاب (أو حديث) هادي في عدن قبل أيام قليلة.
تبدو المقارنة بين تصرف الرئيس الحالي وسلفه مؤخراً مؤسفه. احتفل هادي في عدن بذكرى انتخابه رئيسا للجمهورية بالإصلاحيين والمدرعات والدم، إحتفاله ذاك أرسل جثث العشرات إلى الموت وخلف جرحا عميقا لن يندمل ببساطة. وحين توجه الى عدن في أعقاب الأحداث، ظلت هناك شذرة أمل بأنه أدرك حجم الخطر وفداحته وأنه سارع لإحتواء النار التي أشعلها حفله الغبي، لكن خطابه الذي ألقاه في إحدى الفعاليات هناك أشر على أمر آخر مضاد: لقد توجه إلى هناك لصب الزيت على النار أكثر.
لم يطمئن الناس في عدن والجنوب ولا قدم التعازي لأسر ضحايا احتفاله. بدلا من ذلك، لوح بالويل والثبور في وجه علي سالم البيض مهددا بعقاب دولي. فعل ذلك في لقاء مغلق، وبعد أن فرغ من خطابه وهذا اللقاء، قام حراسه بسحب أشرطة التسجيل من الصحفيين والمراسلين الموجودين!
لا يوجد أغبى من خطاب (حديث) هادي في عدن قبل أيام سوى تصرف حراسه في نهاية اللقاء وتجريدهم للمراسلين من أشرطتهم التسجيلية للقاء. قد تكون لتحفظاته ومخاوفه من ظهور حديثه إلى الناس مبرر لا نعرفه، لكنه لا يبرر أبدا هذا التصرف الذي يؤكد أننا أمام رئيس يود أن يبقى غير مرئي وغير مسموع وغير ملموس الآثار والخطوات على واقع بلده وظروف شعبه. فهو لم يظهر على شعبه في كل المناسبات الضرورية التي استدعت ظهوره طوال عام من رئاسته، وكذلك لم تظهر كل الأفعال المنتظرة منه طوال عامه الأول كرئيس.
رئيس لا يظهر وجهه ولا صوته على شعبه في الملمات ولا نرى أفعاله تدب على الأرض وتقول لنا إن الظروف عصيبة فعلا لكن الأمل لم ينفد بعد. لم ننتظر من هادي معجزات ولا نهضة تاريخية، انتظرنا فقط أن يقترن إسمه ووجهه بالأمل. لكنه اقترن بحزب الإصلاح وطفيلياته فقط.
ربما يستمع الرئيس هادي لحلفائه من قادة الإصلاح أكثر مما يجب، ربما قدموا له الحديث القائل: "واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان!" باعتباره وصفة مثالية لعهد رئاسي مثمر. هذه هي الوصفة التي اعتمدت عليها استراتيجية الإخوان المسلمين في عقد التحالفات والصفقات السياسية طوال عهد علي عبدالله صالح وطوال مرحلة ثورة 2011، وقد أوردتنا تحالفات السر وصفقات الكتمان المبرمة في الظلام المهالك على الدوام واستقرت بنا في هذا القاع الذي نقبع فيه. فإذا كان الحديث الشريف قد حثنا على الكتمان في انجاز شيء، فهو في تحقيق مشاريعنا وأهدافنا الشخصية البسيطة، وليس المشاريع والأهداف السياسية والوطنية العامة، إلا إذا كان هادي يسعى لإنجاز مشروع شخصي لا وطني في الرئاسة، فهذا أمر آخر.
عبدربه منصور هادي لا يبدو اليوم رئيسا لليمنيين ولا يبدو حتى رئيسا إنتقاليا لهم يتولى مهمة قيادتهم من مرحلة مضطربة إلى مرحلة آمنة ومستقرة. بدلا من ذلك، هو يبدو رئيسا سريا، إنه رئيس شبه إفتراضي لدولة شبه إفتراضية في بلد يبدو شبه إفتراضي هو الآخر، بلد لا يبدو موجودا على خريطة العالم السياسية قدرما يبدو موجودا في أحلام أبنائه المؤجلة وشعورهم التاريخي العميق بمرارة الإخفاق المستمر في الانتماء إلى وطن محترم يليق بجمال وروعة اليمن وحضارته العريقة.
هذا الشعور العميق بالمرارة الذي لم يبارح حلوقنا منذ عامين هو شعور خبرناه نحن اليمنيين مرارا مع كل بارقة أمل بالتغيير كانت تلوح لنا وتقترب بنا من العثور على اليمن، يمننا نحن الذي ظل ولا يزال فردوسنا المفقود، فردوسنا الوطني الهارب الذي كلما شعرنا أننا اقتربنا منه بما يكفي، استيقظنا عراةً من الأحلام والأمل وسط مقلب قمامة.
...............................................
• عن "الأولى"،
- قرأت 410 مرات
- Send by email
أضف تعليقاَ