الحــــوار الوطنــــي فرصـــــة رديئـــــة لكن رفضهــــــا أكثــــــر رداءة

لدى معارضي مؤتمر الحوار الوطني تَلٌّ من الأسباب المنطقية الوجيهة للإستمرار في رشق المؤتمر والمشاركين فيه بالإنتقادات وحتى بالتهم، كما أن لدى توقعاتهم بفشل المؤتمر كل الأقدام الكافية لجعل تشاؤمهم يسير بخطوات ثابتة على الأرض. لكن هذا كله لا يبرر مقاطعة المؤتمر قدرما يبرر العكس.
مؤتمر الحوار الوطني يمثل الفرصة الوحيدة والأخيرة أمام اليمن للخروج من هذا المخنق التاريخي، لطالما سمعنا مؤخراً هذه العبارة التي تبدو لي، على سوئها، توصيفا دقيقا لواقع الحال السياسي في هذا البلد. وقد بدا واضحاً أن هذا المؤتمر سيشكل مخرج الطوارئ الوحيد والأخير أمام اليمن من وضعه في هذه المرحلة منذ طرحت المبادرة الخليجية على طاولة 2011، عام الثورة والأمل الوطني الكبير اللذين أُغْرِقَا عمداً وعدواناً وعن سبق إصرار وترصد بالأزمات وبرُكَام اللاجدوى.
وإن شئتم توضيحا أكثر، فسأقول بعبارة أخرى ما يلي: لقد قام الشعب اليمني بواحدة من أهم الثورات في المنطقة، لكن القوى الإقليمية والدولية- وتحديداً السعودية- تمكنت بواسطة عملائها التاريخيين في اليمن من إقفال باب التغيير الواسع عبر الثورة لتفتح بدلا عنه كوّة ضيقة للغاية. هذه الكوّة أطلقت عليها صفة المخرج الوحيد والأخير لليمن من خطر الحرب الأهلية، وهو المخرج الذي صُمِّم بسقف منخفض جدا لكي لا يتمكن هذا البلد من عبوره وهو واقف ومرفوع الرأس ولا حتى وهو راكع في نصف انحناءة، بل لكي يعبره وهو يزحف على أربع.
"فرصة الخروج الوحيدة والأخيرة" أمام اليمن، هذا الوصف بحد ذاته يجعل من مؤتمر الحوار الوطني عنوانا لحالة القهر أوالقسر السياسي والتاريخي التي أخضع شعب بأكمله لها. ما من خيارات أخرى أمامكم سوى هذه الكوّة، سوى هذا المؤتمر، هذا ما قالته لنا المبادرة الخليجية منذ البداية، ولا أظن أحدا منا كان يجهل ذلك. قبل نصف عام أو أكثر، سألتني إحدى القنوات الفضائية العربية فيما إذا كانت أمام اليمن فرصة أخرى غير الحوار للخروج مما هو فيه، لم أرَ حينها أية فرصة أخرى ولا زلت حتى اليوم لا أرى تلك الفرصة. القناة، التي تتبنى خطاً واضحاً في معارضته للتسوية السياسية الخليجية، بدا من أسئلتها أنها تود أن تسمع عن وجود فرصة أخرى، لكنني شددت على أن الحوار الوطني يمثل سترة نجاة اليمن من الحرب والاقتتال.
ولكن شباب الثورة ما يزالون في الساحات والمسيرات ما تزال مستمرة، لماذا لا تكون الثورة خيارا آخر؟ كان هذا فحوى أحد الأسئلة. أعتقد أن هذا السؤال انطلق من نفس الخلفية التي تنطلق منها اليوم معارضة الكثير من اليمنيين للحوار الوطني، أو من نفس المشكلة إن شئتم وصفا أدق. وهذه المشكلة في رأيي تتمثل في التفسير الخاطئ الذي يعتنقه كثيرون لمقولة "الثورة مشروع تغيير مستمر".
صحيح. الثورات لا تُحدِث التغيير في لحظة واحدة ويسدل الستار بعدها، يتطلب الأمر سنوات وربما عقودا من التغيير المتواصل. لكن ليس بنفس الطريقة، ليس من خلال الثورة بمعناها المباشر. إن مشكلة شباب الثورة في اليمن تتمثل، في رأيي، أنهم عرفوا جيداً متى يبدأون الثورة، لكنهم لم يعرفوا أبداً متى ولا كيف ينهونها. والثورة، مثلها مثل كل رحلة، لا تتطلب منا معرفة أين ومتى وكيف نبدأها بقدرما تتطلب منا أكثر معرفة أين ومتى وكيف ننهيها، وهذا ما لم يحدث في ثورة اليمن التي تاهت خطواتها على الرمال المتحركة لهذا البلد، رمال السياسة العمياء والتاريخ المسلوب والتِيه الواضح.
على مدى عامين، حاول العديد من الكاتبات والكتاب تسليط الضوء على "عقب أخيل" الثورة اليمنية دون جدوى. بنظرتها الثاقبة، كتبت ميساء شجاع الدين مثلا عن غياب الرؤية لدى الثورة اليمنية وغياب المشروع الواضح لدى القوى التي سطت على دَفَّة الثورة، داعيةً أكثر من مرة إلى ضرورة بلورة رؤية ومشروع واضحين لهذه الثورة وقواها. ولطالما كانت وجهة نظري متفقة ومتسقة مع وجهة النظر هذه التي كانت ميساء- وآخرون غيرها طبعا- يتبنونها.
واليوم، يتكرر الأمر نفسه. مشكلة غياب الرؤية والمشروع المتبلور التي عانى منها شباب الثورة المعارضون لمسار التسوية السياسية المتمثلة في المبادرة الخليجية والذي أجبرت ثورة اليمنيين على سلوكه يعاني منها معارضو الحوار الوطني اليوم. فهم يعارضون الحوار بصورة عبثية أبعد ما تكون عن المعارضة الخلاقة والمسلحة برؤية ومشروع وبديل سياسي- ناهيك عن البديل الثوري- وأقرب ما تكون إلى المراهقة السياسية.
اليمن ليس بلداً خالياً من أبنائه المخلصين وبناته الأكثر إخلاصا، كما أنه ليس خالياً من الأفكار والرؤى الخلاقة. ومن بين إيجابيات كثيرة خرج بها اليمنيون من ثورة 2011، هناك الرغبة القوية بالتغيير نحو الأفضل وهناك الطاقة الشبابية الكبيرة لمنح هذه الرغبة قدمين قادرتين على السير على الأرض. قد لا يتسع المجال هنا لتسليط الضوء على ما يملكه الشباب اليمني من وعي حضاري وثَّاب نحو المستقبل، لكن المشكلة تكمن على الأرجح في العصابة السميكة التي تفرض بقوة على عيونهم، تكمن في كل هذا العَمَى الإجباري الذي يُفرض عليهم بقوة لا تضاهيها سوى القوة التي فرضت بها المبادرة الخليجية على ثورتهم.
وإذن، وفي ظل هذا كله، ما الذي يتوجب على معارضي الحوار فعله؟ أعتقد أن عليهم الإستمرار في معارضتهم للمؤتمر، ولكن بعد إعادة صياغة هذه المعارضة بحيث تنتقل من مربع المعارضة العبثية للمؤتمر إلى مربع المعارضة الخلاقة. يتعين على المعارضين حشد قواهم وطاقاتهم لإحداث تغيير من خلال المؤتمر، وليست محاولة تشكيل تحالف واسع للضغط والمراقبة على المؤتمر بما يكفل الخروج بأقل النتائج سوءاً الخطوة الوحيدة المتاحة على هذا الصعيد.
مساعدة الكثير من المشاركين والمشاركات في هذه الفعالية، من المستقلين الذين لا ينتمون إلى الكتل السياسية الصماء داخل المؤتمر، على بلورة مشروع واضح داخل المؤتمر وتوفير السند الإعلامي والشعبي لهم هو خطوة أخرى متاحة قد تكون ثمرتها أهم وأكبر من أن نتوقعها الآن. فبدلا من ضياع أصواتهم وآرائهم المتناثرة وسط الكتل السياسية الصماء المهيمنة على المؤتمر والسياسة اليمنية عموما، لماذا لا تتركز الجهود على لملمة هذا النثار المستقل؟
هذا السؤال سيظل يبحث عن إجابة. لكن، اسمحوا لي بإسناده بفقرة لميساء شجاع الدين نشرتها على صفحتها في موقع فيسبوك قبل أيام: "الحوار الوطني استحقاق سياسي ضمن المبادرة سيتم بأي حال سواء عارض البعض او الاغلبية، ربما الافضل من سؤال هل انت مع الحوار أم ضده؟ هو سؤال ما الذي يمكن فعله ضمن الحوار كجماعة ضغط لها اولوياتها ومطالبها أو كجماعة ترفض العملية برمتها ولديها بديل عوض عن المقاطعة السلبية؟".
--------------------
* ينشر في "الأولى" اليوم الخميس

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
3 + 4 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.