الـــثــــــــــــــــــــــورة الإنــتــخــابــيـــــــــــــــــــــــــة*

-----------------------
رغم أن المهندس فيصل بن شملان لم يتحدث عن الثورة التي لم يكن أحد يتصور في الواقع أنها ستأتي بعد سنوات قليلة، إلا أنه تنبأ بها بشكل غير مباشر بعد خسارته إنتخابات سبتمبر 2006 أمام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، حين قدَّر نسبة الراغبين في التغيير وسط اليمنيين بـ(80 بالمائة)، وأكد أن هذه الرغبة في التغيير لا تقتصر على أنصار اللقاء المشترك وإنما تشمل الناس عموما. وفي حين أصر على عدم إعترافه بنتيجة تلك الإنتخابات التى فاز بها صالح عبر التزوير بنتيجة 77 بالمائة، فقد تمنى على النظام أن يلتقط رسالة الناس ورغبتهم في التغيير وألا يتجاهلها. من الواضح، أن النظام تجاهل تلك الرسالة ما دفعه إلى مواجهة ثورة شعبية بعد سنوات قليلة. اليوم، يتعين على قادة المشترك أن يعيدوا قراءة النبوءة التحذيرية التي أسداها مرشحهم الرئاسي الراحل للنظام لأنها اليوم أصبحت موجهة إليهم. دعونا نلق نظرة على تجربتين إنتخابيتين تدوران حول قضية واحدة: محاولة وأد الرغبة الشعبية الملحة في التغيير!
...................................

انفـــــردت اليمن بمعجزتين لم يسبقها إليهما بلد آخر: الأولى إنتخابات بمرشح واحد ووحيد، والثانية ثورة مطالبة بالتغيير الديمقراطي تقود حملته الإنتخابية وتقمع كل من يعترض على هذه الإنتخابات من الثوار داخل ساحات الإعتصامات. ولا غرابة أن تنتهي ثورة تغض الطرف عن إنتهاك كرامة أبنائها على ساحاتها بنتيجة كالتي أعلنتها اللجنة العليا للإنتخابات هذه الجمعة.

نسبة 99.8 بالمائة! هذه ليست حتى نتيجة إنتخابات ديكتاتورية! إنها لا تشبه نتيجة أية إنتخابات ديمقراطية أو ديكتاتورية في شيء مهما بلغ منهما التزوير والإسفاف مبلغه. وهذه النسبة بالضبط ما خرجت الشعوب العربية في تونس ومصر وبلدان أخرى لإسقاط أنظمتها الديكتاتورية حتى لا تفكر بالوصول إليها، رغم أن زين العابدين بن علي وحسني مبارك لم يكونا ليجرؤا ربما على التفكير بتزوير انتخابات تتمتع عادة بمنافس ديكوري الى هذا الحد. 

وماذا عنا في اليمن؟ حققت هذه الإنتخابات قفزة هائلة بل وخرافية عن آخر إنتخابات رئاسية شهدتها البلاد قبل نحو خمس سنوات ونصف: سجلت انتخابات فبراير 2012 الثورية أمام إنتخابات سبتمبر 2006 التي حصل فيها صالح على 76 بالمائة فارقا لصالحها بنسبة 21 بالمائة. إن هذه النسبة تشكل إعلانا وإعترافا صارخين من قبل اللقاء المشترك وشركائه بأن الثورة أجهضت وأنه كان شريكا في عملية إجهاضها.

الثورة اليمنية تعرضت للإجهاض التدريجي من الداخل منذ تحولها الى أزمة سياسية بعد إنضمام أغلب أركان النظام السابق إليها في أعقاب جمعة الكرامة 18 مارس 2011. وعلى مدى 11 شهرا من الأزمة السياسية، قام أركان النظام السابق بقيادة اللواء علي محسن الأحمر وميليشيات الإصلاح بانتهاك الكرامة الإنسانية والوطنية للثوار اليمنيين داخل الساحات وخارجها بالشراكة مع نصفهم التوأم المتبقي من النظام في صف صالح. كانوا بحاجة الى 11 شهرا من عمليات الإجهاض المستمرة والحثيثة لواحدة من أعظم الثورات في منطقة الشرق الأوسط من أجل إيصال البلد إلى حالة الإستسلام التام لهذه الإنتخابات المخزية التي لم تخرج بنتيجة ديكتاتورية صارخة فقط.

لا يمكن لأي سياسي أو كاتب أو مثقف أو حتى مواطن عادي غير متعلم الدفاع عن إنتخابات كهذه خرجت بنسبة كهذه. لكن هناك من يدافع عنها من أتباع أحزاب المشترك بحجة ماذا يا ترى؟ لاحظوا: يلفتون إنتباهنا إلى أنها تشكل نسبة فوز عبدربه من أصوات الناخبين وأنها نتيجة طبيعية لأنه مرشح وحيد ومن ذهبوا للإقتراع ذهبوا للتصويت له بنعم فقط! هذا هو ما يسمى بـ"عُــذر أقبح من ذنب"، ويشبه قيام محامي ما بالترافع عن قاتل أردى أحدهم بالقول إنها جريمة طبيعية لا ينبغي أن تغضب أحدا وتبرر محاكمة المجرم لأنه أصلا مجرم.

لكن غياب أي منافس في هذه الإنتخابات لا يبرر نتيجتها بل يزيد طينتها بَـلَّــة بتأكيده صفتها كإنتخابات ديكتاتورية بالغة الهزلية. لقد كانت إنتخابات 2006 ديمقراطية بما لا يقاس بالمقارنة بهذه الإنتخابات المروعة والمهينة والمذلة لكل إنسان يمني، والثوار والثائرات تحديدا. فقد واجه علي عبدالله صالح منافسا حقيقيا ومحترما هو الراحل فيصل بن شملان. 

بن شملان، رجل الدولة المحترم والنزيه القادم من البيئة الحضرمية التي تميزت برفد اليمن قبل الوحدة وبعدها بعدد من رجالات الدولة التكنوقراط، شارك على الأرجح في تلك الإنتخابات مع يقينه بأنه لن يخلف رجلا متشبثا بالسلطة مثل صالح. فقد قال بعد شهر تقريبا من الإنتخابات في مقابلة أجراها معه الزميل سامي غالب ونشرتها صحيفة "النداء" (29 نوفمبر 2006)، وهو يضحك، إنه كان يعرف أنه لن يصل إلى الرئاسة على أية حال. لكنه أراد خوض التجربة كواجب وطني كما قال، وقد خاض تجربة ديمقراطية تاريخية توفرت على عنصر التنافسية الحقيقية وقدر لا بأس به من عناصر الإنتخابات الديمقراطية بالمقارنة بكل التجارب المماثلة في المنطقة.

لقد أسهم بتجربته تلك في إعادة بعض الدماء الى الدورة الدموية للديمقراطية اليمنية التي تأسست إثر قيام وحدة 1990 قبل أن يقوم صالح بتجفيفها شيئا فشيئا بعد حرب صيف 1994. وقد قدم بذلك هدية للأجيال القادمة التي لابد أنه كان يراهن عليها في تغيير هذا البلد، هدية تساعدهم على بناء ديمقراطيتهم الحقيقية والكريمة.

رغم أن بن شملان لم يتحدث في مقابلته تلك عن الثورة التي لم يكن أحد يتصور في الواقع أنها ستأتي بعد سنوات قليلة، إلا أنه قد تنبأ بها بشكل غير مباشر حين أكد في تلك المقابلة تقديراته التي كان قد صرح بها حول نسبة الراغبين في التغيير وسط الناس، قال إنه يقدرها بنسبة 80 بالمائة. 

أعرف ما الذي كان يتحدث عنه. فقد جلست على مقربة منه في منصة مهرجانه الإنتخابي في أحد الملاعب بمدينة تعز واستمعت إلى خطابه الذي شكل برنامجا إقتصاديا بدا لي حينها وكأنه تسلل من المستقبل خلسة إلى زمننا الراهن، أو على الأقل: تسرب من تجربة الديمقراطية التي تأسست خلال فترة الوحدة الأولى 1990-1994 وتمتعت ببعض مقومات الديمقراطيات المحترمة. وقد شاهدت التوق الهائل في وجوه مؤيدي بن شملان للتغيير نحو الإفضل عبر عملية ديمقراطية محترمة تعكس إرادة الناس.

لقد فشل بن شملان في الإنتخابات التي رأى لاحقا "أنها كانت خاطئة، وتم إهدار إرادة الناس وأصواتهم الحقيقية". مع هذا، فقد حافظ على هديته تلك من كل ما قد يلحق بها من سوء أكثر مما لحق بها، وقد فعل ذلك من خلال رفضه الإعتراف بنتائج تلك الإنتخابات حتى وافته المنية رغم اعتراف أحزاب اللقاء المشترك بتلك النتيجة.

لقد فاز صالح في تلك الإنتخابات عن طريق ترهيب وترويع الناس ومنعهم من حضور مهرجانات بن شملان أثناء الحملة الإنتخابية. في مهرجان تعز مثلا، أغلقت قوات الأمن مداخل المدينة أمام القادمين من المناطق والأرياف المحيطة. وقد بلغ الأمر بنظام صالح حد ممارسة طرق ضغط مبتذلة ورخيصة تعكس درجة من الوضاعة والخسة لم أكن أتصور أن يبلغها أحد على الإطلاق. 

ففي يوم المهرجان، كان من المفترض أن يتناول بن شملان ومن رافقوا حملته من مسئولين في المشترك وصحفيين وغيرهم الغداء في مطعم شهير بتعز كان قد وافق على الحجز مسبقا. ونحن في الطريق، تلقينا إتصالا من إحدى الشخصيات لم أعد أتذكرها تبلغنا بأن نبحث عن مطعم آخر نتناول فيه غداءنا لأن إدارة المطعم أعتذرت عن إستقبال بن شملان ومن معه جراء ضغوط عليها من أجهزة أمنية بدا وكأنها تعمدت ألا يعرف بن شملان إلا عند وصوله المطعم! 

بالنسبة الي شخصيا، كانت هذه الحادثة الصغيرة الأكثر تعبيرا عن ذهنية وثقافة وأخلاق نظام صالح من كل ممارساته التي استهدف بها إعاقة بن شملان وناخبيه عن السير في مهمتهم الديمقراطية والوطنية، ولم أستغرب بعدها مسرحية "الحارس الجهادي" الذي ظهر خلف مرشج المشترك وأبرز صالح صورته في مؤتمر صحفي قبل عملية الإقتراع بيومين. 

ومع كل هذا، كان صالح ما يزال بحاجة للتزوير. فما إن بدأ فرز الأصوات، يقول بن شملان حتى "بدأت العملية تخضع لإشراف جهات أخرى بدلاً من لجنة الانتخابات". وهكذا، فاز صالح عن طريق الترهيب والترويع وطرق الضغط الرخيصة ثم أختتمها بالتزوير. رفض بن شملان تهنئة صالح والإعتراف بالنتيجة ولم يتراجع عن موقفه لأن ذلك كان "سيمثل خذلان لكل الناس".

لكنه كان يتمنى أن تدرك هذه الجهات التي قامت بالتزوير "رغبة الناس في التغيير، لأننا لا نريد للنظام أن يبقى واهماً بأن الناس راضون عن الأوضاع الراهنة. أردنا لهذه الرسالة أن تصل، ولا بد أن الأجهزة قد أدركت ذلك"، قال بن شملان. لكن "هل سيأخذها النظام في الاعتبار أم سيستمر في وهمه؟"، تساءل وأجاب: "لا يمكن أن نوافق النظام على تجاهلها، ويهمنا أن تؤخذ الرسالة بعين الاعتبار".

من الواضح أن النظام تجاهل الرسالة تماما ولم يأخذها بعين الإعتبار، وهذا ما أدى الى نتيجة كارثية عليه بعد أربع سنوات حين ترجم حديث بن شملان عن الحاجة الشعبية الماسة للتغيير نفسه على الأرض في صورة ثورة شعبية كبيرة. لقد كان حديثه ذاك أقرب إلى النبوءة منها إلى أي أمر آخر. فهو أكد أنه لا يتحدث عن رغبة في التغيير وسط أنصار المشترك فقط بل لمسها وسط اليمنيين عموما: و"من يقوم بالتغيير وكيف، هذا موضوع آخر"، قال. 

في مطلع 2011، وباستلهام لثورات الربيع العربي في تونس ومصر، قام اليمنيون واليمنيات بثورة مطالبة بالتغيير وإسقاط النظام وبناء الدولة المدنية. التحق المشترك بهذه الثورة متأخرا ولكن لا لكي يساهم في إسقاط النظام وإنما في إسقاط الثورة التي حولها إلى أزمة سياسية انتهت بإنتخابات مخزية ستشكل إنتكاسة تاريخية في مسيرة الديمقراطية اليمنية.

انتخابات 2012 لم تشكل نكسة على مستوى الديمقراطية اليمنية فحسب، بل أبضا على مستوى المشترك نفسه الذي انضم نهائيا الى النظام بعد أن تقمص ثقافته وأخلاقه وروحه. فبعد ان اقتصرت جريمته السياسية والتاريخية في إنتخابات 2006 على الإعتراف بها وهي مزورة، أصبح هذه المرة شريكا رئيسيا في التزوير.

ولا تتوقف خطورة انتخابات 21 فبراير عند حد. فإذا كان النظام قد زور إرادة الشعب في انتخابات 2006، فإن عملية التزوير في انتخابات 2012 لم تقتصر على استقبال المشترك كعضو جديد وشريك فاعل للنظام في نادي تزوير إرادة الشعب. إن مأساة انتخابات 21 فبراير الكارثية تتمثل في تعميم حالة التزوير على الناس- الناخبين- أنفسهم وتحويلهم إلى فاعلين أساسيين في تزوير إرادتهم عن سابق وعي وإدراك. 

تغمد الله الشخصية اليمنية الفذة، ورجل الدولة المحترم، فيصل بن شملان بواسع رحمته. والدعوة نفسها بالرحمة للثورة الشبابية الشعبية الإنتخابية السلمية المحمية اليمنية العظمى على هذا الإنجاز الديكتاتوري التاريخي الكبير وغير المسبوق الذي حول تزوير إرادة الناس من مهمة قذرة تقوم بها الأنظمة الديكتاتورية الى مهمة قذرة يقوم بها الناس أنفسهم. لكن هذا الإنجاز المخزي لن يقضي على مشروع التغيير الشعبي في اليمن أبدا، بل سيبقيه قائما مكانه في طور الحاجة الملحة والمستمرة. وعلى قادة المشترك أن يعيدوا قراءة النبوءة التحذيرية التي أسداها مرشحهم في الإنتخابات السابقة للنظام لأنها اليوم أصبحت موجهة إليهم. 

إن الأمر الوحيد المؤكد بشأن التغيير يتمثل في أن الحاجة إليه لا تموت وتختفي بمجرد الإلتفاف عليه وإجهاضه، وإنما بالقيام به بشكل سليم وعلى أكمل وجه.
__________
• عن صحيفة "الأولى"، الأحد 26 فبراير 2012

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
7 + 11 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.