رحلة إلى جنوب لبنان
ذات ليلة مقمرة تحركت بنا السياره الى أرض الشموخ والعزة والإباء، أرض الجهاد والصمود والأنتصار، جنوب لبنان الطاهر الذي أسر قلوبنا بجمال الأرض والأنسان. دون تحضير مسبق لم ندرك إلا ونحن على طريق الجنوب. اثناء عبورنا بتلك الأراضي التي هي امتداد للسماء كانت شفاة قلبي تُقبّل كل شبر من هذه الأرض التي يفترشها رجال الله وحزبه الغالبون. في بنت جبيل وعلى بعد مئات الأمتار من السياج الشائك بين قوات العدو الغاصب المحتل لفلسطين وجنوب لبنان حطت رحائلنا. ونحن نرى آليات العدو في طريق السير تذكرت كيف استطاع حزب الله ان يلقنهم هذا الدرس الذي لم ولن ينسوه مدى الحياه. ومن الصعب بمكان ان يتقدموا ولو شبراً واحداً فلوا قرر العدو بهذا الأمر مما لا شك فيه سيكون في عداد الموتى خلال لحظات، كل هذا سيحدث للعدو بعدما كان يقوم بأنزال مظلي الى مناطق بالقرب من بيروت العاصمه دون ان يحرك احداً ساكن.
اثناء رحلتنا مررنا بوسط الحقول المترامية، تكثر في هذه البلدة المغاور والكهوف والآبار، ومع طلوع فجر السبت، شاهدنا نهار مختلف عن بقايا مدن لبنان، تضفي بنت جبيل، مع قليل من المبالغة، تأريخاً جديداً على روزنامة الايام. يحفر عميقاً في ذاكرة الصغار قبل الكبار. في ذاكرة اهلها المقيمين فيها دائماً، والمهاجرين عنها في بلاد على بعد المدى، وايضاً الجيران على اختلاف انتماءاتهم. هذه الذاكرة حاولت اسرائيل محوها منذ نشأة كيانها "القابض" على المجال الحيوي السابق لبنت جبيل وجبل عامل.
لكن اصوات الباعة التي تعلو وتعلو، قبل ان تجف قطرات الندى على اوراق شتول التبغ، تشي ان السوق بخير، وايضاً البسطات الممتدة على طول الساحة والطرق تفيض بخيرات الارض العاملية.
قبل النكبة وسقوط فلسطين، شكلت بنت جبيل الشريان الاساسي للتجارة بين بلاد الشام وفلسطين. كانت مدينة بنت جبيل في مرمى الاستهداف الاسرائيلي لاسباب عدة، منها قربها من الحدود (حوالى 3 كيلومترات)، واحتضانها المقاومة الفلسطينية بعيد منتصف الستينات من القرن الماضي، ثم المقاومة الوطنية والاسلامية.
وجدت اسرائيل في القنابل العنقودية وسيلة جديدة لتهجير الأهالي من أرضهم بعد فشل كل الوسائل الأخرى. رمت المقاتلات والمدفعية الغازية أكثر من مليون قنبلة عنقودية (بحسب إحصاءات دولية) في خلال 33 يوماً من عدوانها، بينما يحتاج نصف ذلك العدد إلى ثلاثة أعوام لإزالته.
الكتابة في بنت جبيل، يعني أنك أسير أحداث فيها من كوابيس الألم والمعاناة، وكأنها تتناسل من بعضها وسواء أكانت كتابتك في ذاتك، أو في ذوات غيرك، فإنما تكتب عن بنت جبيل، لأن اجتماعها يستدرجك من وحدتك أو من غربتك، وصمودها يستدرجك من خوفك، وصحتها تستدرجك من سقمك. لا يمكن لسيرة البطولة البنت جبيلة وكونها عاصمة الانتفاضات والمقاومة، ان تلغي ان المدينة تملك حواسا خمسا وانها تتألم وتأمل، وانها ايضا تملك حاسة سادسة هي حاسة الاستشراف عن بعد للقادم الاخطر وربما القادم الاجمل.
لقد شرب تراب بنت جبيل شيئا من دماء أبنائها، وبفضل الشهداء أضحت عنوانا للمقاومة ورمزاً للتحرير. لذلك فهي تسكن القلب والوجدان. هي أمّ الجميع. لقد ذابوا فيها وصاروا بعض حجارتها، بعض حيطان بيوتها، بعض سطوح القرميد المتبقية فيها، وصارت هي اسمهم وعنوانهم ومرتبة شرفهم، هي أميرة الحزن مجللة بالسواد لكنها لم ترفع الأعلام البيض ولن ترفعها في أي حين.
بنت جبيل عروسة جبل عامل وأميرة التلال، أنتِ خط الدفاع الاول هناك على تخوم الجليل من فلسطين السليبة. إني أراك مرفوعة الهامة، عالية الجبين، محياك ينبض بالحياة.
بنت جبيل أنظر الى جدائل شعرك وقد غدت ضفائر متقاربة، متواصلة، كل منها تحكي روايات وصفحات مجيدة من تاريخكِ المشرّف.
بنت جبيل أنتِ الغادة الهيفاء، خلعت ثوب الصيف عِنوة وارتديت حُلّة أبيتِ أن تكون سوداء لأن نفسك لم تعرف يوما القنوط او اليأس بل اشتهرتِ بطول الأناة وشدة البأس. نعم بنت جبيل غدا تنقشع غيوم الحقد السوداء، غدا يوم آخر، غدا تشرق الشمس هناك من وراء "جبل كحيل" قرب مارون الراس وعيترون، غدا ينساب وينتشر الضباب قبل الشفق وتعاود قطرات الندى، رحيق عرق جبين الأبطال، تدغدغ وريقات التبغ.
بلى، بنت جبيل، غدا يحل الربيع وتتراقص شقائق النعمان على التلال عند الفجر لحظة هبوب النسيم العليل ولونها قانٍ زاهٍ وقد عُمدت بنجيع الشهداء.
من أين ينبع هؤلاء الفتية الذين يسرون في الليل خفافاً فيفاجئون العدو الآتي لكي يفاجئهم، ويقتحمون في النهار قلب النار فإذا الدبابات تنحطم، وإذا الطائرات تضيع عن أهدافها، ولا تستطيع استنقاذ جنود اسرائيل الذين جاؤوا لمحاصرة المقاومة فإذا هم محاصرون يعجزون عن التقدم ويعجزون عن التراجع فيعولون ويطلبون الإسناد المدفعي والنجدات لكي ينسحبوا قبل أن يبادوا؟!
أرضهم التي غدت حدوداً مع فلسطين التي في القلب. من يستطيع أن ينتزع من صدورهم فلسطين وتبقى قلوبهم خافقة بحب الحياة؟ كيف تبقى لهم أرضهم، كيف تبقى لهم حياتهم والذين احتلوا فلسطين يواجهونهم بالمدافع والطائرات يحاولون إجبارهم على خفض رؤوسهم والرحيل واقتلاع أنفسهم من أرضهم بينما الدبابات تقصف على الشعر في صدورهم والذاكرة
في بنت جبيل، حيث يتدفق الدم شعراً لا وقت لان يتوقف المجاهدون ليسمعوا ما جرى في روما. لقد قرأوا الرسالة في زيارة الإنذار لوزيرة الخارجية الاميركية. وهم يعرفون أن الحرب التي فرضت عليهم، في بيوتهم، أميركية أساساً وأن اسرائيل تخوضها بالنيابة، وربما كارهة. هم يلمحون العلم الاميركي ونجمة اسرائيل واحدة من نجومه الكثيرة. هم تحققوا الآن بالدليل الحسي الملموس أن اسرائيل تقاتل حرباً تعرف أنها لن تنتصر فيها، برغم قوتها الهائلة. هم يقاتلون لبيوتهم، لأطفالهم، لحاضرهم، لمستقبلهم، واسرائيل تقاتل لغيرها. هذا جزء مهم من ديوان النصر.
**مصادر بعض المعلومات
سوق بنت جبيل التاريخيه-صحيفة النهار(عباس الصباغ)
هناك حيث حرمت إسرائيل الأهالي من حقولهم-جريدةالسفير(علي الصغير)
بنت جبيل بين محمودَين-جريدةالسفير(منذر جابر)
بنت جبيل على العهد-جريدة السفير(فاروق بزي)
بيتاً بيتاً، تكتب بنت جبيل ديوان النصر الأول-جريدة السفير(طلال سلمان)
- قرأت 486 مرة
- Send by email
أضف تعليقاَ