سوق الوهم .. من الثورة إلى الحوار

في ثورة 2011م استخدمت أغلب القوى المنظمة سلاحها في مواجهة عنف السلطة ، في أرحب ، في تعز ، وفي العاصمة صنعاء ، ومع هذا هناك من كان وما يزال يلهي نفسه بالوهم مردداً أن اليمنيين تركوا ملايين قطع السلاح وذهبوا ليعتصموا سلمياً. والحقيقة أن من اعتصموا سلمياً هم الأفراد التاركون لسلاحهم قبل الثورة وأثناءها وبعدها ، المواطن اليمني كفرد لا يسير في الشارع بسلاحه، وعلى الرغم من الفقر والظلم وغياب الدولة إلا أنه يخوض معاركه بيده وبدون حتى الجنبية التي يزين بها خصره، ومن يستخدم السلاح في اليمن هي القوى المنظمة .. وهذه القوى لم تتخلى عن سلاحها كأسلوب حياة أثناء الثورة وكانت ومازالت تستخدمه كل ما قررت أو تعرضت للخطر كجماعة.
كانت الحرب تشتعل في الحصبة .. وهناك من يتغنى بتخلي القبائل عن سلاحها .. كانت المواجهات المسلحة في هايل والزراعة تهز أمن السكان وأرواحهم.. وهناك من يتغنى بسلمية الثورة .. كانت الحرب في أرحب على أشدها .. والتجاهل لها على أشده .. كانت المواجهات المسلحة في تعز تحصد أرواح المدنيين الأبرياء ، وأصوات رموز للمدنية في تعز تردد ثورتنا ثورة سلمية بالسلاح محمية !
حالة من الوهم الإرادي المقنع بفضيلة التفاؤل والأمل على حساب الإدراك الذي يفترض أن يحسن شروط الواقع ، وهاهي مراكز القوى والجماعات المسلحة تحتفظ بمواقعها والثائرون السلميون أصبح أغلبهم أكثر إيماناً بأحقية الدفاع المسلح عن النفس.
ووهم آخر تمسك به الحالمون حتى آخر نفس.. ففي الوقت الذي كانت فيه أحزاب اللقاء المشترك وعلى رأسها الإصلاح تحكم أنفاس ساحات الثورة وخطوطها وخطواتها خاصة في العاصمة صنعاء.. كان المستقلون يطلبون الإذن من شباب الأحزاب المسيطر على المنصة ليصعدوا عليها ويصرخون .. لا حزبية ولا أحزاب ثورتنا ثورة شباب .. كان الحلم الرافض لوجود الأحزاب هو الوهم الذي انتصر على فريضة الاعتراف بوجودها والضغط عليها من أجل تحسين شروط الثورة ومخرجاتها.
والنتيجة مبادرة تحصن علي عبد الله صالح وأعوانه بالقانون وتضع نائبه لسنوات رئيساً للجمهورية ، وحكومة تتقاسمها أحزاب اللقاء المشترك بالنصف مع حزب المؤتمر ، وحلفاء للحكم الجديد كانوا هم أنفسهم حلفاء الحكم القديم..منظومة متكاملة تتفوق على نفسها في سوء الأداء.
وقبل أن انتقل لفخ آخر دعوني هنا أسأل سؤال.. ونحن في هذه الأيام نسمع ونتحدث عن التنوع داخل مؤتمر الحوار الوطني.. الحوثي مع الإصلاحي مع المدني مع الشيخ مع العسكري ..ألا نتذكر أن هذا الكلام هو نسخة مكررة عن ما حدث في ساحات الثورة عام 2011م؟ .. للأسف هو كذلك حتى في زيفه.
كان الحالمون داخل ساحات الثورة يتحدثون عن حالة السلام بين القوى المختلفة المشاركة فيها ، وعلى رأسها الحوثيين والإصلاحيين .. كانوا يتحدثون عن الساحة وكأنها اليمن متناسون تماماً أنه في نفس الوقت الذي يبتسم فيه الحوثيون والإصلاحيون لبعضهم ابتسامات صفراء في الساحة هم عملياً يتقاتلون في الجوف. والآن..الحالة البائسة التي تعيشها بقايا الساحة في صنعاء والتي شهدت مواجهات بأكثر من شكل بين الإصلاحيين والفرقة الأولى مدرع من جهه والحوثيين من جهة أخرى هي الانعكاس الحقيقي للبؤس الذي تعامى عنه الجميع منذ البداية تحت شعارات وهمية كاذبة.
الأمثلة كثيرة وكلها تؤكد أن ساحات الثورة في فترة معينة كانت حالة مستحدثة لا علاقة لها بالواقع على امتداد اليمن ، ومع هذا قرر أصحابها أن يحبسوا وعيهم داخلها وينسجون حول أنفسهم جملة من الأوهام التي صدقوها وصدقها بعض اليمنيين خارجها .. وشكلت هذه الأوهام عائقاً دون صياغة حلم ممكن التحقيق.
وللأسف هكذا مر الوعي اليمني ، بدلاً من الاعتراف بالواقع كما هو من أجل تحسين شروطه استسهل أن يلف كل انتكاسة جديدة بوهم جديد، من الثورة إلى مؤتمر الحوار الوطني الشامل .. وقبل التطرق لمؤتمر الحوار لابد من وقفة عند اللجنة الفنية للإعداد والتحضير للحوار الوطني.
6 نساء ،9 مستقلون ، والممثلون للأحزاب والجماعات شخصيات مدنية لا عسكر ولا مشائخ .. هكذا كان تصميم اللجنة حين أعلنها رئيس الجمهورية بقرار رئاسي .. وبالرغم من الاعتراضات السياسية المتعددة التي رافقت الإعلان عنها حتى من داخلها إلا أنها تزامنت مع أصوات متفائلة بوجود هذا العدد من المستقلين فيها وبأسماء أعتبرها الكثيرون مبشرة .. كالعادة كان في أغلبه تفاؤل غير حذر .. رغم أن آلية تشكيل اللجنة كان غامضاً ورغم أن القرار النهائي لكل موضوع لا يتم التوافق عليه يعود لرئيس الجمهورية .. وزاد الناس فرحاً باللجنة حين أصبح مقررها شاباً مستقلاً وأحد نواب رئاستها امرأة مستقلة ، وناطقتها الرسمية ناشطة مستقلة ، وزاد أكثر حين أكدت اللجنة بالإجماع على ضرورة تهيئة الميدان والسير بخطوات بناء الثقة ورفعت عشرين نقطة تتعلق أغلبها بالجنوب وصعدة كضرورة لإنجاح الحوار.
وأكثر من ذلك .. منذ البداية ذابت الفروق بين الجميع وابتسم الاصلاحي والحوثي والمؤتمري والمستقل لبعضهم البعض ، وأثبت المستقلون نساء ورجالاً مكانتهم من خلال أداءهم المتميز، وتوافقت اللجنة في أغلب المواضيع دون الحاجة للجوء إلى رئيس الجمهورية.
ومع ذلك فالحقيقة التي أكدت عليها في أغلب المقابلات التلفزيونية والإعلامية التي أجريتها وأنا عضوة في هذه اللجنة هي أن اللجنة الفنية تعيش عالماً منفصلاً عن الواقع .. الأطراف السياسية التي تبتسم لبعضها في اللجنة تتقاتل في الميدان .. خطوات التهيئة التي تم الاتفاق على ضرورتها لم ينفذ منها شيء .. الحراك الجنوبي بفصائله المتعددة لم يبذل أي جهد محايد ومنصف لتشجيعها على المشاركة في الحوار.
وفوق ذلك كله .. أثبت رئيس الجمهورية أن مزاجه لا يزال هو الحاكم الأول فأضاف 6 أشخاص دون علم اللجنة او استشارتها .. ومن اعترض بصوت عال قبل الاجتماع مع الرئيس أصبح مؤدباً أكثر من اللازم في حضرة الرئيس ، ثم جاءت الضربة الثانية حين تلاعبت ذات القوى التقليدية بالتعاون مع الأمم المتحدة بنسب التمثيل وسحبتها من يد التوافق في إطار التنوع إلى أحضان الكولسة ، ومر الأمر دون أن يثير حساسية أغلب المستقلين، بل بمباركة بعضهم.
والأهم .. سارت اللجنة بمن فيها نحو مؤتمر الحوار دون اتخاذ وقفة جادة من أجل التهيئة التي طالبت بها منذ البداية ، تحول كل من فيها من قيادات وشخصيات كانت قادرة على إحداث تغير جاد وحقيقي من خلال الموقع الذي وضعت فيه والفرصة التي منحت لها إلى مجرد موظفين مخلصين لدى رئيس الجمهورية وجمال بن عمر.
لم تكن اللجنة الفنية ذات طابع فني فقط، وإلا لكان الأفضل أن يتم تسليمها لخبرات فنية متخصصة ومحايدة ،ولكانت هذه الخبرات استطاعت أن تحضر للمؤتمر بجودة وكفاءة أعلى بكثير مما فعلته اللجنة الفنية الحالية ، ولكانت اختصرت الجهد والوقت الذي كان يضيع في التوافق أكثر مما هو في تحسين جودة العمل ، ولأن اللجنة الفنية كانت تستوعب هذا الأمر تماماً فقد وضعت مطلب التهيئة والنقاط العشرين واعتبرت الضغط باتجاهها من صلب مهامها ، ولو كانت نجحت في فرض خطوات التهيئة ورفع معايير الجودة السياسية والأخلاقية لكانت قد أدت أهم أدوارها ، وغفر لها ذلك الخلل الإداري والفني الملحوظ في تصميم المؤتمر، لكنها للأسف أخفقت في دورها السياسي وقصرت في دورها الفني والإداري وتحولت إلى مجموعة موظفين مخلصين يعملون تحت عصا جمال بن عمر الغليظة وسؤاله الحاسم ( ماذا أقول لمجلس الأمن ؟)
ارتضت اللجنة الفنية بمن فيها أن تذهب نحو مؤتمر حوار وطني بخطوات عجلة بدون خطوات التهيئة وبناء الثقة في الميدان، بدون مشاركة كل فصائل الحراك الجنوبي، بدون تطوير برنامج العمل وقائمة المواضيع والتصميم الفني للمؤتمر ، بدون الالتزام بمعايير محترمة وواضحة في اختيار المشاركين والمشاركات في كل القوائم وعلى رأسها قائمة رئيس الجمهورية التي غدرت بالأقليات والمتخصصين والمتخصصات، ذهبت اللجنة نحو مؤتمر الحوار الوطني بلائحة داخلية تجعل القرار النهائي لمواضيع المؤتمر المختلف فيها في يد رئيس المؤتمر الذي هو رئيس الجمهورية.
هذا هو الثابت في الخلاصة التي خرجت بها اللجنة الفنية والباقي كله بما فيه من تنوع ، ومواجهات ، وحروب صغيرة وكبيرة ،وموقف شجاع هنا وآخر هناك ليس سوى تفاصيل لم تنجح للأسف في صناعة واقع مختلف.. مازالت معايير الجودة السياسية والأخلاقية متدنية ، ومازالت القوى التقليدية ومراكز القوى هي الحاكم الفعلي في الأرض، كنا نحن المستقلين الشباب وعبد الكريم الإرياني وعبد الوهاب الآنسي وجمال بن عمر وحتى رئيس الجمهورية الذي خرج من أحد الحوارات غاضباً على طاولة واحدة نداً لند .. والآن ماذا؟ هم مازالوا يتحكمون بكل مداخل ومخارج السياسة ويتمتعون بما استفادوا ويستفيدون به من قدرات وسمعة المستقلين ، ونحن كما نحن .. لم نخرج بأكثر من الخسائر الشخصية أو المكاسب الشخصية.
والآن .. من حق الناس أن يجربوا مؤتمر الحوار الوطني كأداة متاحة .. واحترم كل الشخصيات المستقلة التي شاركت فيه .. لكن اتحفظ فقط على تحويله إلى سوق آخر للوهم .. صادق الأحمر يدخل قاعة الموفنبك بدون سلاح لكنه يحكم الحصبة بسلاحه وكذلك الحوثي في صعدة وكل القوى المسلحة في الميدان .. فعلى من نضحك؟ أليست انفسنا أغلى من أن نضللها بوهم جديد ؟
الصراخ أمر سهل ومعارك المناصب داخل المؤتمرات أياً كانت أهميتها أمر أسهل خصوصاً في حضور الكاميرات .. التحدي الحقيقي هو العمل من أجل تحسين شروط الحياة في الواقع .. في الميدان .. فهل يستطيع المستقلون في مؤتمر الحوار الوطني أن ينجحوا فيما فشل فيه مستقلوا اللجنة الفنية ؟ هل يمكنهم التحول من مجرد موظفين يقومون بما يطلب منهم داخل مربع ضيق إلى قوة ضغط تستفيد من الموقع العام الذي أعطي لها لفرض أداء محترم للدولة والأطراف السياسية في الميدان؟ هل يمكنهم الاتفاق على الضغط من أجل التهيئة وخطوات بناء الثقة وتحسين أداء الحكومة بالتوازي مع المؤتمر كشرط لنجاحه ؟ وحتى لا يخرج المؤتمرون والمؤتمرات من الغرف المكيفة إلى واقع مشتعل؟ هل يجرؤن على مطالبة رئيس الجمهورية بطمأنتهم أن الأمور تسير في الطريق السليم من خلال قرارات وإجراءات ملموسة ومحترمة لها علاقة بحياة الناس اليومية؟ ما رأيكم أن تبدءوا معه بطلب واحد فقط .. هو وقف توزيع الوظيفة العامة بناء على المحاصصة وفرض آلية تلتزم بالقانون ومعايير العدالة .. إن لم يستطع أن يفعل ذلك الآن فمن سينفذ مخرجات مؤتمركم ؟ وللأسف سأرحب بكم حينها في واقع تعيس ستصلون إليه بعد نشوة تجربة لن تخرجوا منها بأكثر من الخسائر الشخصية أو المكاسب الشخصية .
صحيفة الأولى 8 أبريل 2013م

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
14 + 0 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.