للأقصى سنسري… وفي القدس سنبقى

في لحظه ما، وكأن الكون يتوقف لتصبح انت محوره . حركتك فيه هي ما تجعله كونا محسوسا موجودا. في ظل التشديد على الوصول إلى الأقصى ، وكأنه فعلا أصبح قصيا عن الوصول ، ومنع المعظم من الدخول عبر ابواب القدس القديمة الا من سكن بداخلها ، ليصبح وصول أي منا وكأنه الوصول إلى نهاية العالم .

وكأن بالوصول إلى الأقصى سيتحرك الكون من جديد. . في السابق لم أكن لآخذ تعلق الناس بالمكان على محمل الجد ، في النهايه المكان هو المكان . الانسان يبقى هو الاهم اذا ما اردنا لاي مكان البقاء . على الرغم من اعترافي الدائم بذلك الشعور بالسحر الذي قد يجرك هذا المكان إليه . في اللحظه التي تضع رجلك فيها على أعتاب باب العامود ، باب الساهرة أو باب الأسباط وكأن بوابة ما ورائيه تفتح بوابة خلف البوابة الحقيقيه التي لم تعد إلا مثالا لمدخل مثل تاريخا عريقا عتيقا تعاقبته حضارات لتأتي انت وتدخله وتكون بتلك اللحظة كل مايمكن أن يكون للوجود من وجود سيخلد هذا المكان . مشيت القدس من كافة ابوابها منذ أن كنت طفلة لا تتجاوز الخمس سنوات مع جدتي باتجاه المسجد الأقصى لصلاة الجمعة وبعد ذلك للمشي بأزقتها وكبرت لأستمتع بالتبضع من دكاكينها وتأمل عتباتها وزقاقها وحاراتها وخنقاتها ، لتأخذني في كل مرة الى رحلة لا هي على أرض ولا بسماء ، الا أن صلابة بلاطها الذي كونته الحضارات المتعاقبه لا تنفك الا وتأخذك طوعا وباستسلام مطلق إلى تاريخ قد بدأ معه وجود لا بد انه غير الوجود. فبين بلاط روماني وبيزنطي،وعثماني ، وحجر مملوكي وركن فاطمي وقباب أمويه واخرى صليبيه ، لا بد ان تصبح جزءا من كل هذا الذي كان مما صنع حضارتك كإنسان وتجد نفسك دائما متربعا متأملا خاشعا أمام الأقًصى مواجها يمنة أو يسرة إبداع قبة الصخرة التي تعيش حياة كاملة لتتأمل جمال دقة الابداع في عمارتها .

ولا من بد إلا ان تقف ولو للحظة لتسأل كيف أبدع المسلمون في هندسة هذا المكان ،وكيف استطاعوا تحقيق رسالة الرسول في الإسراء إليه ،ووضعه في قلب محرك الديانات ،ليقابل كنيسة القيامة بكبرياء وشموخ. حاولت فهم سر الشعور الذي يبدأ بهذا السحر عند وطء قدمي على أعتاب البلدة القديمه والذي ينتهي به كالولوج في ساحات المسجد الأقًصى في كل مرة حتى استسلمت له وصار جزءا من سحر يخصني ، وكأنني والمكان ننتمي لهذه الخلطة الكونية كبرت ورغما عني كبرت حواجز المكان الذي يحده الناس بطباعهم الغريبه عن الوجدان الذي تحيكه بخيالك مع المكان من جهة ، والشرطة الإسرائيليه التي تقف متبجحة تحدد لك شروط دخولك وكأن المكان يخضع لفرز تحدده أسئلة غبية تحتاج أن تثبت فيه لرجل أو امرأة لا يمت بدينك أو ايمانك بصلة ليجري لك فحصا دينيا . في كل مرة دخلت المسجد قاومت الخضوع لهذا الامتحان المستفز من رجل أمن أمقته يقرر فيها إذا ما كنت مسلمة بما فيه الكفاية للدخول . لأصبح بلحظات قادمة مصدر إلهام إلى الهداية من قبل جموع النسوة المصليات لإخفاء ما ظهر من خصلات طائشة من شعري من تحت الحجاب. لسنوات كبرت فيها قاومت بعناد اولئك الحراس وتلك النسوة اللاتي عيين انفسهن ملائكة الأعمال الحسنة او السيئة الخاصة بما بان من خصل شعر المتبرجات العابثات اشكالي. هذه المرة لم يكن هناك مجال لمهاتراتي فالحصار لم يعد بحارس سفيه أو نسوة يفتشن عن فريسة لحلقاتهن التبشيرية بالجنة.. الحصار أصبح بأناس تمنيت لو ذلك الشرطي التافه يوقفهم ويجري عليهم اختباراته في تسميع سورة الفاتحة والناس ، ولو يحطن النسوة بهم ويخرجونهم من المكان فرائحتهم حتى لا تشبه المكان بالرغم من الروائح التي طالما شعرت بالاختناق منها . وكأن سكينا طعن في صدري لرؤيه اولئك اليهودالمستعمرون يدنسون قدسية المكان . لم أكن لأهتم في مناسبة أخرى ولربما في المكان نفسه في زمن اخر لا يقوم الاعداء باحتلال ما تبقى منا بحجر ونفس .

لم أكن لأهتم لو كانت غايتهم العباده . فبيت الله لعباده ، ولكن اولئك لا يعبدون الله شأننا . يعبدون الله وكأن الله خالص لهم ، وكأن الدين لهم وبهم ومن خلالهم ، وكأن البيوت كلها لهم وبيتهم لهم وحدهم فقط. الموضوع اكبر من عباده … العباده اصلا لا تكون هكذا .. قصرا ،عنوة، غصبا وتدنيسا لكل ما يمس الاخر. منعوا الرجال من الدخول ، رابطت النساء بالداخل مع بعض الشيوخ . بلحظة ما أعادت الأقصى العنفوان للمرأة الفلسطينية وأصبحت تشبه نسيبة المازنية وهي تتراوح قوافل الفتوحات الإسلامية . أصبحت أرى ابنتي بنسيبة الجدة ، وكأن المقاومة والدفاع عن الحق والوجود سيان لوجود تأصل بالماضى . أصبح السجن والضرب والتنكيل من قبل شرطة الاحتلال للنساء شرف وبطولة.. ماذا نفعل نبقى في بيوتنا نترقب نشاهد نصلي ندعو فرج الله ؟ ننزل نرابط في الأقصى نساء ورجالا ، ابناءا وبناتا ، ؟ ولكن لم يعد يردع الاحتلال حياء امام امرأه او رفق امام طفل . فالكل يأكل نصيبه من ضرب وتنكيل واهانات اذا ما حالفه الحظ ولم ينته باصابه برصاص حي او مطاطي او ذرف عليه المياه العادمه والغاز المسيل للدموع . ام ننته كما انته الشباب الذين منعوا من الوصول فعملوا من سياراتهم عبوات ناسفة قضت عليهم وعلى عابري الطريق من قطعان مستوطنين يعيثون في أرضنا فسادا ويحرموننا من الوصول الى ابسط اماكننا للتعبد الى خالق يفترض انه واحد.

ما الذي افعله للآقصى … أمشي الى هناك كالحامل نعشه على يده ..فالمواجهه مستحيل الا ان تكون حتميه . رمي الحجر سيأخذ طفلا ليمضي عشرون عاما من عمره بالسجن . الاعتقال سيكبلنا بمحاكم لا منتهيه والمخالفات المغرضه ستطالنا ونحن واقفون. أمشي بخطى تحملني ككل مره ما فوق أرض وتحت سماء .. الشرطه الاسرائيليه تصطف في كل الاتجاهات ، على مدخل كل شارع وزقاق . الكاميرات تعلونا من كل طرف تراقب كل حركة. الأعلام الأسرائيليةتتزايد ترفرف من فوق شبابيك البيوت كالعاهرات في خانات مدينة دخلها الاستعمار. الرباط أجل الأقصى أصبح مقاومة إجبارية فما الذي سيبقى لنا ان اغتصب الأقصى ؟ شعرت بنفسي أهرول بخطوات غير محدوده بفضاء لا محسوس .فالساحات خالية من الاطفال الذين تعودت رؤيتهم يلعبون ويمرحون بين أروقة الباحات .  تقف البوابات الحديدية لفرض واقع يراد به حسم المكان والزمان. حراك غير مريح . هدوء لا يشوبه هدوء المكان .

هدوء مترقب للحظة تنفجر فيها السماء . باكية ، حزينة، غاضبه ..لم يعد مهما .. فالسماء ملبدة بانعكاس ما يجري تحتها . لطالما شعرت بقرب السماء إلى ساحات الأقصى . كنت انتظر في كل ليلة قدر من رمضان ولا زلت لحظة رؤية السماء وهي تفتح لي أبوابها لأسرع بالدعاء وطلب المعجزات من الله .. كبرت ولم تكبر معي تلك الأماني والأدعيه التي حفظتها من ليله قدر لليله قدر العام المقبل . أصبحت أما ولا زلت أمارس هوايتي السريه في انتظار فتح السماء في تلك الليله .

ولكن الآن شكل السماء يختلف ..تقترب أكثر من القباب ، وكأنها ستقع من كثر الغيوم الممتلئة على الأعمده المحاذيه للأقصى أمشي ولا أكاد أصدق ما تراه عيناى ،  أناس متواجدون متحسبون متهجمون …الكل يمشي يقف يسجد يركع ..الكل في حالة تملؤها الصدمة من هول المصاب. حالج من الاصرار والوفود الى قدر يحتمه علينا الاحتلال بقمع وظلم لا يتوقف.القدس تقفل ابوابها . الاقصى محاط بقضبان حديدية .

 وكأن العالم هرم امام عيني بلحظات ، ام اني هرمت امامه ؟ عشت عمرا كنت فيه طفله وكبرت جيلا بعد جيل ولم يكبرني هذا المكان… بلحظه غاشمة ظالمة لا اصدق حتى اللحظة اني أعيشها كبرت وهرمت أنا والأقصى بلحظة لم يعد هذا الصرح فتيا بالرغم من عمره الطويل . بلحظة هرم وغلبه المرض والوهن والإستسلام.

 لن يستسلم الأقصى ولو حتى استسلمت السماء وانفجرت بكاءا ودكت نفسها أرضا . لن يستسلم الأقصى وهو نبضنا منذ عرفنا الحياه .

فالاقصى مسرانا ومنه لم تكن صدفة معراج الأنبياء منه ، واقتراب السماء ليس حالة اتخيلها عنده. قد لا يفهم المحتل ولن يفهم ماذا يعني الانتماء بالايمان إلى مكان من يقصدونه يقصدون من خلاله التقرب فعلا الى اخرة صالحة فيها خلاص .. خلاص كخلاص الاتقياء والصالحين وأقرب لرسول الله. قد لا يعي ولن يعي المحتل حب المسلم للأقصى حب يفدي به الانسان حياته في سبيل لحظة حياة للحبيب . والأقصى مسرى الحبيب ومعراج احباء الله من الانبياء. لم يصدق العدو الغاشم بأن هناك حبا خالصا لله وهذا الحب فيه كل معاني الوجود …تبدأ به وتنتهي بدونه الحياه. الأقصى أولى القبلتين وستبقى بنا ونبقى بها رغم أنف الاحتلال ستبقى طالما هناك انسان تربى في كنفها وبين أروقتها وتحت قبابها وشم بخورها ولمس برأسه أرضها وتصفح مصاحفها وتمدد تحت ظلالها ورفع يديه عاليا راجيا متوسلا لله تحت سمائها.

 ستبقى الأقصى ولن تسقط الا بسقوط اخر ابنائها شهداء من أجل العيش بحرية وكرامه.

 

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
7 + 2 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.