الفدرالية بما هي دين ووباء وأفيون ... وبساط يحمل اليمنيين إلى جهنم
صارت الفدرالية دين السياسيين اليمنيين بفضل الإلحاح عليها كمخرج للأزمة الوطنية من قبل أطراف المبادرة الخليجية بدءا من الرئيس هادي مرورا بقادة الاشتراكي والمشترك (عموما أو تاليا) ومعهم خليط عجيب من الاكاديميين والمثقفين والصخفيين والمشتغلين في المجتمعين المدني والحقوقي, وصولا إلى علي محسن الأحمر شخصيا.
"صناعة الإجماع" نجحت _يتوجب الاعتراف_ في حرف تطلعات اليمنيين نحو سيادة القانون ودولة المواطنة باتجاه آخر تماما هو "الفدرالية من أقليمين أو خمسة أو عشرة!".
أي "صناعة إجماع" تنظوي بالضرورة على إكراهات من شتى الاصناف. وفي الحالة اليمنية اكتسبت الفدرالية (التي كانت ملعونة من النخبتين الحاكمة والمعارضة) قوة العقيدة, فصارت دين النخبة, النخبة التي تثابر في التبشير بها دون أن تقدم للرأي العام دراسة واحدة تبرر اعتناقها, كما لم تظهر أي دليل على أنها تعرف جيدا إلى أين تأخذ اليمنيين بهذه العقيدة المتعالية على التفاصيل!
كتبت مرات عديدة محذرا من الخفة التي تهيمن على السلوك السياسي لسادة المشهد اليمني الراهن. على مدى العقدين الماضيين رفعت المعارضة السابقة ممثلة باللقاء المشترك شعارات تعويضية مشابهة؛ للتمثيل, فإن هذه المعارضة (التي صارت سلطة أمر واقع تتكالب على الوظيفة العامة والامتيازات) رفعت مطلب تغيير النظام الانتخابي من أكثري إلى نسبي (قائمة), وأعرف جيدا بأن عددا من أهم قادة هذه الأحزاب لا يفقهون الفروق بين النظامين, بل أنني فؤجئت في 2005 بأن قياديا بارزا في الإصلاح (الإصلاح بما هو آلة انتخابية فعالة) كان يجهل كليا المقصود بنظام القائمة وآثاره على الديمقراطية والحياة الحزبية والاستقرار الحكومي والمشاركة الشعبية. وهو, على أية حال نموذج لما هي عليه الاحزاب في اليمن. تتوهم الاحزاب اليمنية, بخاصة تلك التي لا تتوافر على قاعدة تنظيمية متماسكة والة انتخابية فعالة, أن مجرد التحول الى "القائمة" سيضاعف حصتها في الهيئات المنتخبة. كذلك يصير الخلاص من الاخفاق والضعف والاحباط رهن بشعار "تغيير النظام الانتخابي".
في نهاية 2005 أجمعت الاحزاب المنضوية في "اللقاء المشترك" على مطلب "النظام البرلماني". كانت قد ضاقت ب"الأب " الذي بدأ يشيخ لكنه لا يريد أن يترك مقعده "البابوي" وهذه المرة كان للإصلاح الدور الفاعل في صناعة اجماع حول ضرورة التحول الى نظام برلماني. في العقدين الماضيين مالت حركة الاخوان المسلمين في العالم العربي الى النظام البرلمان لأسباب ذاتية في الأغلب. كانت تدرك أن هناك فيتو على وصولها الى الموقع التنفيذي الأول في اي بلد عربي. وتقدر أن مجرد التفكير بخوض استحقاق انتخابي رئاسي سيجلب عليها الويلات (التجربة المصرية الأخيرة شاهد لاحق على صوابية هذه الرؤية الاخوانية). ولأن المعارضة السابقة في اليمن ليست راديكالية (ثورية) فقد رأت أن التخلص من "الأب" الذي كانه صالح يقتضي التحول كليا عن النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني بما يجعل من الرئيس أبا للنظام السياسي له سلطة شرفية لا غير.
في 2006 اضطرت المعارضة مجتمعة إلى تقديم مرشح مستقل توافقت عليه إلى الانتخابات الرئاسية لمنافسة صالح. كان المهندس فيصل بن شملان أكثر من مجرد مرشح متوافق عليه.
في مطلع الحملة الانتخابية رفض, أول ما رفض, تضمين برنامجه الانتخابي المطلب المقدس للمعارضة وهو التحول الى النظام البرلماني. لم يكن فيصل بن شملان انهزاميا أو انسحابيا أو من صنف القادة المبتلين ب"التبخيس الذاتي"! وهو رفض النظام البرلماني بندا في برنامجه لسبب أول متعلق بالشكل, إذ كيف يتقدم الى الانتخابات كمنقذ لليمن من التسلط والفساد وهو لا يؤمن بكفاءة الموقع الرئاسي لإنجاز هذه المهمة, ما قد يسبب صدعا في المصداقية؟ (هذا الدرس من المعلم الراحل لم يحفظه قادة المشترك حتى اللحظة).
كان السبب الآخر موضوعيا ويتصل بالثقافة السياسية العميقة للمهندس فيصل بن شملان, فهو (في تقديري الشخصي من واقع حوارات ونقاشات معه) يدرك أن اليمن أحوج في مراحل الانتقال الى رئيس قوي وحازم يلملم اشتاتها بالقانون. كذلك لخص شعار حملته الانتخابية مضمون فكرته لدور الرئيس (رئيس من أجل اليمن). استطرادا, فإنه رفض تماما تهنئة المرشح المنافس الفائز رسميا بالانتخابات في 2006 لأنه لا يقبل أن يكون رئيس اليمنيين فائزا بنتيجة مشكوك في صحتها (قارن موقفه هذا بموقف أحزاب المشترك التي سارعت الى تطبيع علاقتها بالرئيس صالح في ما يشبه الاعتذار عن منافسته, وراجع تصريحات علي محسن الأحمر بشأن النتيجة المزورة علما بأنه لم يكن متحمسا للانتخابات من الأساس).
الشعارات المقدسة ليست كذلك دائما عند محترفي "صناعة الإجماع" في اليمن. في مؤتمر الحوار تكدست الرؤى الحزبية التي تدعو إلى "نظام سياسي برلماني", لا غرابة. لكن الرئيس الذي صُنع هذه الشعار خصيصا لمواجهته لم يعد يقطن في دار الرئاسة بعد ثورة شعبية ومبادرة خليجية استقدمت من الظل رئيسا جديدا اسمه هادي. ما المانع إذا من اسقاط هذا المطلب في المشاورات التي تجري خارج موفنبيك؟ قرر قادة المشترك بالتوافق مع آخرين التخلي عن المطلب التاريخي والإبقاء على النظام الرئاسي لأن البلد لا يحتمل صراعات في البرلمان تلحق المزيد من الوهن بالسلطة التنفيذية.
منذ 2009 ظهر في الاسواق منتجا جديدا اسمه "الفدرالية". كان منتجا نخبويا لا يحظى باهتمام الجمهور. بعد ثورة فبراير كاد هذا المنتج أن يفقد أية فرضة بقاء. فقد طرحت الثورة عناوين كبرى ومهمة بينها اسقاط نظام صالح وإقامة دولة المواطنة انطلاقا من حل القضية الجنوبية. في التحولات الكبرى تتلاشى الخيارات الهروبية من شاكلة "الفدرالية" التي هي مخرج نفيين اثنين: لا لانفصال الجنوب ولا لاستمرار هيمنة "المركز المقدس". والمركز المقدس هنا صلصالي يمكن تشكيله على أنه نظام صالح وعصبته والفرسان الأقنان المتحالفين معه في شتى انحاء اليمن, ويمكن أيضا توسيعه ليشمل قبيلتي حاشد وبكيل القويتين بما هما منجم المقاتلين في جيوش الأئمة ومن بعدهم الرؤساء في اليمن الشمالي الجمهوري, ويمكن الذهاب أبعد من ذلك (بالتعميمات السائدة, من أسف وبشكل مخز غالبا, لدى نخب سياسية ومثقفة في اليمن شماله وجنوبه) بتعيين المناطق الشمالية الزيدية برمتها على أنها "مركز مقدس".
حيال الانفصال, بعيدا عن "المركز المقدس", تنبني مقولة الفدرالية على ركيزتين؛ هي معنية بترضية الجنوبيين للتخلي عن دعوى فك الارتباط, وهي أداة مضاربة مثلى بين الجنوبيين انفسهم عبر تخليق فاعلين جدد يخوضون باسم الجنوب حوارا (أو تفاوضا كما يحدث الآن في موفنبيك) يفضي إلى اتفاق حول فدرالية ما, يكون ممثلها المعتمد في الجنوب هو المفاوض الجنوبي ذاته.
في موفنبيك إفصاح وإضمار. المفصح عنه أنهم يريدونها فدرالية. المضمر أنهم يفضلونها اقطاعيات يتقاسها أمراء الحرب فيما بينهم. وفي الأثناء تنتشر كالوباء الفدرالية في مختلف المناطق محفزة تشوهات تاريخية وعصبويات راسبة في اللاوعي تجد لها حيثية الآن لمعاودة النشاط. هكذا صار في وسع أية مجموعة ليس لها أي صفة تمثيلية عقد مؤتمرات أو جمع توقيعات تتبنى اطلاق (من دون أي حياء) اقليم الجند أو الاقليم الشرقي أو أي اقليم في "يمن" تتخاطفه العصابات الوطنية والمحلية!
الفدرالية ليست دينا ووباء فحسب. إنها الأفيون الذي ينتشر تعاطيه في كل بقاع اليمن. صار كل شيء مباحا لدى متعاطي الفدرالية. ببساطة لأنها تبشيرية وآخروية تعد المؤمنين بفراديس دنيوية يسمونها أقاليم وولايات, وفي سبيلها يهون كل مطلب. الأمن على سبيل المثال مطلب مؤجل إلى أن يؤذن بقيامة الفدرالية, ومراقبة سلوك الرئيس ترف لأننا في طريقنا إلى فدرالية. تحجيم مراكز القوى والنفوذ ومافيات البترول والديزل مقامرة في الوقت الراهن فالفدرالية كفيلة بتخليص اليمنيين منهم إلى الأبد. ملاحقة القتلة والمجرمين ومنتهكي حقوق الانسان في الجنوب والشمال عبث وهدر للوقت والجهد, فالشهداء لن ييشعروا بالخيانة إذا أفلت القاتلون فالشعب ينعم بالفدرالية الآن وهذه مقايضة عادلة.
رائعة اتمنى ان تتمعنوا في قراتها للاستاذ سامي غالب
"نحن في طريقنا إلى النعيم", يطنطن الجوف الصغار دون أن تكون لهم أية مصلحة في تفكيك بلدهم وتحويلها إلى ساحات حروب حدودية وأهلية بلا ضفاف. وفي الأثناء يواصل الدين الجديد انتشاره, ويزداد عدد معتنقيه بتسارع ملحوظ خصوصا بين الطيبين في "موفنبيك" الذين سيحملوننا معهم على بساط نواياهم الحسنة إلى جهنم
- قرأت 340 مرة
- Send by email
أضف تعليقاَ