‎*الوطن ... إحساس غائب وأحلام مؤجلة

يتحدث باولو فريري في كتابه الذي عنوانه بـ (تحت ظل شجرة المانجو) وقد ترجم إلى العربية بعنوان (تربية القلب) عن وطنه بأنه (ليس أسمى ولا أدنى من غيره من الأوطان .. إن وطننا يقوم على الكيفية التي ننظم بها إنتاجه وتاريخه وتعليمية وثقافته وغذاءه ... إنه المذاق الذي نحس فيه .. الوطن يعني النضال من أجل تحقيق الأحلام ...) أي أن الوطن ليس قيمة متعالية على احتياجات القاطنين فيه، كما أنه ليس هناك وطن في موقع الدونية مقارنة ببقية الأوطان، وإنما هناك وطن يتسق من حيث الإنتاج والثقافة والتعليم والأحلام مع قيم ومبادئ وأخلاقيات وأماني الغالبية المقهورة ، والمقصية بعنف الطبقة الحاكمة فالوطن ليس دلالة هلامية ومبهمة ، هو بالنسبة لي تلك الأمكنة التي كنت أعيش وأنمو فيها أثناء طفولتي في ملاعب كرة القدم، في برك المياه، في مغامرات الأطفال وخصوماتهم ، في الفصول الدراسية وفناء المدرسة ...، والوطن بعد ذلك وموازياً له هو تصوري الأيديولوجي له كوطن تسوده العدالة الاجتماعية والحرية، أي أنه الانتفاع المادي من المكان .. قد تتبدل التصورات الأيديولوجية، لكننا لا نستطيع أن نسوق تصور لوطن متعالٍ ومستبد، في هذه الأحوال لا يصبح وطننا وإنما سجن ومقبرة وإن أحيط بهالة من القداسة والخطوط الحمراء.
ولأن الوطن يقوم على الكيفية التي نصوغ وننظم فيه تعليمنا ، فإن بناء التعليم على أساس بناء العقل الناقد ، هو جوهر هذا الوطن الذي نحلم به ، لأن تفريغ التعليم من الوعي النقدي وتحويله إلى كم من المعلومات، التي يتم استظهارها عند الاختبارات، يؤدي إلى إنتاج أيدي عاملة مستعبدة، وعاطلة وغير مهتمة بالشأن الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي، وإنما منشغلة بحالة يأس وإحباط وكوابيس ، وغياب الإحساس بالوجود والحلم بتغييره. إن الحديث عن تآكل معنى الوطن لا يكفي ما لم يردف بالتفكير في الأسباب التي أدت إلى هذا التآكل، وهي بالتأكيد أسباب سياسية بالمقام الأول، مرتبطة بطبيعة الأنظمة الحاكمة والطبقة المهيمنة على الشأن العام،ثم يأتي كتبعات لهذه السياسة، الأسباب الاقتصادية والثقافية والأنساق الاجتماعية كنتائج مرتبطة بالممارسة السياسية للطبقة الحاكمة، لأن الثقافة التي تنتجها الطبقات المهيمنة تعمل على تعزيز انعدام الإحساس بوطن للجميع، وتعمل على تجفيف الإرادة الحالمة بالتغيير .. وفي ظل غياب الإحساس بالوطن، لا يصبح لدينا أحلام، وإنما مجموعة من الخيبات والكوابيس ..، وهو واقع يتميز بالقدرية والجمود حسب رأي (باولوفريري) (تربية القلوب). يتصور الكثيرون أن مفهوم اليمن كجغرافيا مطابق لما يسمى ، بالمملكة المتوكلية أو الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية ، أو الجمهورية اليمنية في حين أن هذا المفهوم لا يحيل إلى ثابت جغرافي عبر مراحل التاريخ المختلفة، فاليمن تتسع جغرافيته، في مرحلة تاريخية كجهة تقع جنون الحجاز، قد يتضاءل في مراحل ليصبح ما يقع جنون باب اليمن، ولكي يتحول هذا المفهوم من جهة جغرافية تعني الجنوب، مقابل الشام كجهة شمالية - ولهذا السبب كان شمال صنعاء يسمى لواء الشام وجنوب باب اليمن يسمى باليمن، ولهذا سمي باب اليمن – لكي يتحول إلى شعور وإحساس بوطن يحمل الذاكرة والمنفعة والثقافة والأحاسيس والمشاعر والآلام والأحلام – ومن أجل إنجاز هذا التحول ينبغي أن تكون الغالبية ذات مصلحة حقيقية بهذا التحول.
إن التاريخ كما يراه فيلسوف (تربية المقهورين) (باولو فريري) هو إمكانية وليس حتمية، ولهذا يصبح المستقبل هو خيار نصنعه وليس واقعاً حتمياً يعزز القدرية ، ولهذا تصبح الثوابت هي مجرد خيارات لكنها ليست حقائق ومطلقات للغد، إلاَّ بقدر تلبيتها لاحتياجات الغالبية العظمى، ولا يمكن أن يصبح لمفهوم الوطن محتوى وجداني وعملي طالما وهذا المفهوم تمت صياغته وفق عنصرية الحاكم المستبد والطبقة المستبدة التي تمارس العنف السياسي والاقتصادي تجاه الغالبية المسحوقة بسبب قدرية طبقية أريد لها أن تكون قانوناً طبيعياً وإلهياً لتشمل الأرزاق والأكوان واللغات والأديان، كما أنه في ظل سياق يقوم على الاستغلال والهيمنة لا يمكن الحديث عن صيغة تسامحيه في ظلها، لأنها إن وجدت لا تصبح تسامحاً وإنما تواطؤاً يسلب الآخرين أحلامهم لمصلحة واقع طبقي مستبد.
يسأل (باولو فريري) عند زيارته لمؤسسة كاثوليكية في سان فرنسيسكو لرعاية الفقراء والمعوزين، سيدة بيضاء: أنتِ أمريكية، أليس كذلك؟ أجابتني بعينين دامعتين (لا) إنني فقيرة. ويعلق على هذه الحكاية قائلاً (لقد عبرت هذه السيدة البائسة بطريقة ذات مغزى عن غياب مفهوم المواطنة لديها ... لقد أظهرت هذه السيدة أن الأيديولوجيا المهيمنة قد استقرت داخلها إلى درجة أنها كانت بكاملها وبذاتها نقداً ذاتياً) من خلال تعليقه يرى (فريري) أن المرأة ترى الهوية الأمريكية مرادفة للغنى، وبالتالي فهي ليست أمريكية لأنها فقيرة، وهو برؤيته تلك ينظر إلى إجابة المرأة العجوز على أنها قد أصبحت مرآه للأيديولوجيا الأمريكية، في حين يمكن قراءة إجابة المرأة الفقيرة، على أن الفقر يجعل الناس دون هويات وأحلام يرتبطون بها ويعبرون عنها، وقديماً نسب إلى علي بن أبي طالب قوله عن الفقر بأن (الفقر كفر) و(لو كان الفقر رجلاً لقتلته) والحقيقة هو أن الفقر نتاج طبقة مستغلة ومستعبده للآخرين، ولهذا كان قتال (علي بن أبي طالب) وأصحاب الصفة من الفقراء وجمع من اليمنيين الفقراء في مواجهة استئثار وطبقية الأمويين بالحكم والمال، وهو ما آلت إليه نتيجة الصراع بينهما. وعودة إلى تعليق (فريري) عن إجابة المرأة الفقيرة، أرى أن الفقر هو انتزاع لإنسانية الإنسان ناهيك عن هويته، فمن المستحيل على الفقير أن يتذكر هويته غير المعاناة اليومية في بحثه عن رغيف خبز يسد رمقه، وكسوة تقية من الحر والبرد ورصيف أو ملجأ يبيت فيه، بل إنه إذا تلبسته هوية حكامه فإن المسألة لا تعدو وكونها مجرد حماسة في الدفاع عن العبودية، وهذه الحماسة تزداد طردياً كلما ازدادت عبودية الفرد، كما يرى (رينيه جيرار) في كتابه (الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية) ت رضوان ظاظا.
مرة أخرى إن الحديث عن مفهوم للوطن يدفعنا للسؤال عن دور التعليم في صياغة مفهوم للوطن ملتصق بفئات الشعب المختلفة، أو صياغة وطن لا يكون أكثر من قناع من أقنعة الاستبداد، مثله مثل معابد الحكام الأخرى تلك التي تخدر الغالبية، لكي تضحي بنفسها في سبيل وطن لا تملك منه شيئاً، ونوعية التعليم هنا كما يراها (فريري) تقوم على تنمية المهارات، وارتباطها بالشأن السياسي، وبناء عقل نقدي، وليس تخزين كمية من المعلومات (البنكية) أو (التربية البنكية) حسب اصطلاح (فريري). تعليم يحرر الإنسان من الحاجة والخرافة، لا أن يحوله إلى آلة لا يعنيها شيء من أمر السياسة والاقتصاد والمجتمع.
لقد تم تشكيل وصناعة مفهوم الوطن في بداية القرن العشرين، منذ أن عقدت الإمبراطورية العثمانية صلحاً مع الإمام (يحيى بن محمد بن يحيى حميد الدين) وذلك فيما أصطلح على تسميته بـ (صلح دعان) عام 1911م وقتها أدار الإمام (يحيى) معارك إلى جوار حروبه مع العثمانيين – حروباً مع المنافسين ، وبعد صلح دعان كانت حروب (الإمام يحيى) مع الأدارسة ، وبعد خروج العثمانيين كانت حروبه مع آل سعود ومع الإنجليز ، كل تلك الحروب كانت تحت راية الحق التاريخي والطبيعي لما يراه (الإمام يحيى) لمفهوم اليمن، ثم آلت الأمور بعد حروب وهزائم ومعاهدات، إلى قبول مؤقت بجغرافية المملكة المتوكلية بشكلها الذي ورثته عنه الجمهورية العربية اليمنية، لكن التاريخ اليمني ومفهوم الوطن لا يقوم في اليمن عل التراكم وإنما على القطيعة والتضحية بكل إنجاز للإمام (يحيى) وتأسيسه لمفهوم (الوطن) الذي حكمته الجمهورية العربية اليمنية وورثت عنه كل عيوبه وأضافت إليه صراعاً طبقياً وتفاوتاً معيشياً واستئثار بالسلطة والثروة، وكأن الشر يمكن اختصاره برمز اسمه (الإمامة) وأسرة حميد الدين، يتم تقديمها ككبش فداء وكرمزية تختزل العنف والدمار الذي حلّ في اليمن كما تقول السردية الرسمية لحكام ما بعد 1962م، بل ويتم تطوير فكرة الفداء لتشمل أكثر من ألف عام، من حكم الأئمة لليمن، رغم ما تحمله هذه السردية من خرافة تتناقض مع تاريخ الدويلات اليمنية التي تجاورت، وتحاربت خلال هذه الفترة الممتدة لأكثر من ألف عام بين الأئمة واليعفريين وعلي بن الفضل والزياديين والصليحيين والرسوليين والعثمانيين، لكن الجماعة الحاكمة تحتاج إلى كبش فداء لتماسكها واستمرار حكمها في مواجهة خصم من الورق يسهل الانتصار عليه دون تبعات ... وبالتالي يصبح استحضار الإمامة والسلطنات كرمزية للشر والعنف الذي جاء السلام والاستقرار والخير بسقوطهما!
في كل حقبة تاريخية يتم فيه صياغة وطن وفق مقاسات المنتصر، ولكن عبر سلسلة من العنف، فالعنف الناتج عن الصراع بين القوى الملكية والجمهوريين جعل الأطراف المتحاربة، تغدق الأموال والسلاح على القوى القبلية التقليدية في الشمال ، مما ولَّد رغبة لدى القوى القبلية باستمرار الحرب وعدم الحسم، وأن يكونوا جمهوريين نهاراً، ملكيين ليلاً طالما والأطراف المتصارعة تغدق عليهم الأموال والسلاح، وتتفهم منطق القبائل ، بل وتعززه ، بمقولات مثل (كلوا ولكن لا تفرطوا بالوطن) والوطن هنا يصبح وهماً ميتافيزيقياً لا علاقة له بالسلوك اليومي الانتهازي ، والأشبه بقوى الارتزاق، التي تبيع جهدها، دون أن تؤرق نفسها بالتفكير عن معنى (الوطن)، يمكن الرجوع إلى مذكرات (سنان أبو لحوم، وعبد الله بن حسين الأحمر، وحسين المسوري ، وخطابات الرئيس علي عبد الله لمشايخ صعدة عند ترسيم الحدود) وهي كلها تصب في منحى واحد ، وهو تعزيز السلوك الانتهازي للقبائل مقابل التمسك بالمبادئ وعدم التفريط بالوطن !! وبهذا السلوك لم يعد هناك تفكير بالمعنى الرومانسي والنفعي معاً، وإنما إبهام وتعويم لمعنى الوطن ، إلى درجة تجعل هذا المصطلح متأرجحاً ، وقابلاً للاتكاء عليه من كل الأطراف المتنافسة
والمتنازعة!!
________________________________
*الهويات الطاردة"قراءات نقدية للهويات المتخيلة"-محمد ناجي أحمد-28-34ص-ط1-2010م.
7

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
11 + 7 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.