تعز التي لا تشبه نفسها

لا تستطيع تعز أن تقرر مصيرها بمنأى عن البلد برمته، كما لو كانت جزيرة معزولة ومقطوعة الصلات بمحيطها الجيوسياسي -اجتماعي- اقتصادي؛ وإذا كان بوسعنا الحديث عن مزايا تجعل من هذه المدينة مغايرةً؛ فإن هذه المزايا ليست جينية سلالية في إنسانها بالقطع بل متأتية من طبيعة الجغرافيا ونمط الأنشطة الإنتاجية التي زاولها الإنسان عليها للإيفاء بمتطلبات وجوده؛ وما يحدثه كل ذلك- في الأثناء- من جدل مع الآخر "مركز السلطة" والآخر "الشرائح الإجتماعية" المتنافسة في غمار عملية الإنتاج و اكتساب القوت والمكانة اللائقة!
غير أن صعوبة أن تقرر تعز مصيرها بالقطيعة مع المصير العام للبلد بكل سياقاته المعقدة والمتشابكة، لا يعني بالمطلق أن تستمر رهينةً لمركز سلطة تهدر كل مزايا المدينة وخصوصياتها المجتمعية التي ينبغي مقاربتها من زاوية نظر علمية عملية ووضعها نصب العين في بحثنا عن شكل الحكم الأمثل والنضال في سبيل تحقيقه..
إن الأصوات التي تدفعها غيبوبة حماسة هوجاء وعاطفة ملتهبة، إلى إدعاء "فرادة فوق القدرة على القياس و الوعي" لتعز، هي الصدى التوأم والمباشر للأصوات التي تسعى لصهر تعز كلياً في الخطاب "الوطني" العام بدعوى التجانس التام والتماثل الكامل... كلا التوجهين يقدمان المدينة فريسة سائغة على طاولات المركز الذي هو- في غياب جسم الدولة- ليس مركزاً مؤسساتياً معلوم الحدود والصلاحيات، بل مركز سلطة مافوية أخطبوطية عديدة الأذرع، يعوم رأسها في الظل وتطوق قبضاتها واجهة المشهد الرسمي.
ففي حالة القول بـ"فرادة تعز" سيكون علينا أن نهتك – بلا معايير واضحة- نسيج المحافظة الاجتماعي في محاولة الإجابة على السؤال؛ من هو التعزي الذي تتمظهر فيه تعبيرات الفرادة المتوهمة؟! وسنخسر الدجاجة -في نهاية المطاف- دون أن نصل إلى مصدر بيضات الذهب الخرافية.
أما في حالة القول بـ"التجانس التام" فسيكون علينا أن ندهس كل مزايا المدينة التي يمكن البناءُ عليها، عابرين على جثث أحلامها المشروعة، كفرقة جنود أجلاف ينفخون أبواق الوطنية الفارغة من كل قيمة عملية أو معنى نبيل!.
إن الفرادة كالتجانس تماماً هي عملية محو ناعم تتجاوز المدينة بما هي حالة أرضية واقعية كائنة بمعطيات في متناول التحليل والسَّبر، لتبني عل أنقاضها "يوتوبيا" رومانسية محلقة في سديم التجريد.
ولدى خطاب المحو هذا فإن غياب المدينة الكامل كواقع لا مصلحة للسلطة في التعاطي معه، هو شرط اكتمال حضورها في الإنشاء كمعزوفة غنائية خفيفة الظل تصفق لها مكونات السلطة بإمتنان نظير ما تستثيره من عواطف جياشة وقنوعة وغير مُلْزِمة بشيء في الوجدان العام..
عبر هذه الفجوة الواسعة والرخوة ومنها وفيها تتكاثر الطفيليات والقوارض التي تقدم نفسها بديلاً اختزالياً للمدينة بعد أن تكون قد التهمت كل تنوُّع نسيجها الإجتماعي.
إن "التعايش المتسامح، الفردانية، الحياة المستقلة خارج الروابط العصبوية والقرابية، شغف التحصيل العلمي، الشغف بالفنون، اكتساب مهارات حرفية، الرهان على العمل، احترام القوانين العامة والحاجة إليها، الإستعداد الذاتي لأداء حقوق الدولة والميل للحياة في كنف نظام عصري عام، الإنضواء في تنظيمات سياسية واجتماعية،...."، هي سمات تتوافر بمستوى لا بأس به في مجتمع تعز، وليست حكراً عليه دوناً عن مجتمعات المحافظات الأخرى، بل هي كذلك -على الأقل- في ظل غياب الدولة – والتغييب- الطويل لمشروع وطني عام تنهض به دولة مؤسسات حديثة ومحايدة، تُدار بالشراكة لا بالمحاصصة.
إن الشراكة السياسية المأمولة- كنقيض لمفهوم المحاصصة بين عصابات- هي شراكة تقوم على الإعلاء من قيمة تلك السمات الآنفة وتلتقي على ثوابت إنمائها وتعميمها والتمكين لها.
إنها شراكة بين قوى تمجِّد العمل والعرق والبذل وتسعى برؤى علمية مشفوعة بالإرادة ونقاء الذات، لتفجير الطاقات الكامنة في الجغرافيا والبشر، على نحو خلّاق يجعل من البلد رقماً مهماً في المعادلة الإقليمية ومن الإنتماء لهويته مزيةً مشرفة.
إن طبيعة الترويكا المؤلفة للسلطة الراهنة لا تتيح -بالمطلق- القول بوجود شراكة بالمفهوم الآنف، فأطرافها المملوكون بالنخاسة المباشرة للديوان الملكي السعودي، والذين يعتاشون كذباب الجراح على عاهات وتشوهات البلد ويعملون على تنميتها، لا يبحثون في "تعز، عدن، الحديدة، حضرموت،...أو سواها من محافظات " عن شركاء بل عن مملوكين بما يتيح إضفاء شرعية مبعثها تجانس شبكة الحكم في بلد "ينبغي" أن يختزل إلى "أقبح ما فيه"!
إن كل ما هو إيجابي وجميل من صفات ومزايا يتسم بها مجتمع تعز، هي أمور يمكن لأي مجتمع إكتسابها وتنميتها، فيما لو حظي البلد بدولة تفكر جدياً في تحقيق نهضة بالتأسيس على قيم إيجابية من هذا القبيل، وبما أن دولة كتلك ظلت حلماً عاثراً على الدوام، فإن مسار تطور البلد كان ارتدادياً في معظم مراحله، فإجتاحت مساحةُ اليباس كلَّ مساحة خصب برعاية رسمية وتغوَّلت قيمُ البداوة على حساب التعايش المتسامح في إطار التنوع الإجتماعي والإنفتاح ونبذ العصبيات.
في غضون ذلك كان التعزي - للمثال والمفارقة - يُمتدح بأنه "شخص متعلم، مثقف، مسالم وغير ثأري" وكان إنسان شمال الشمال، يُوصف بنقيض هذه الصفات فهو "طائش، ثأري، جاهل وقبيلي عسر" على سبيل الإمتداح أيضاً... لكن هذا المديح المتناقض، كان ينطوي على غمز موارب وغير خفي بطبيعة الحال، فهو في جوهره يقول للأول "أنت ضعيف بفعل تحضُّرك" وللآخر "أنت قوي ببداوتك"... وهكذا تصبح "الحضارة والبداوة" في هذا الطرح مسألة "فرادة"، لا تلزم السلطة بأية واجبات حيال طرفيها، بل تمكنها - على عكس ذلك - من استمرار حكمها تأسيساً على قوة المضاربة بين "جزر إجتماعية معزولة" لا توحدها هوية وطنية في إطار مشروع نهضوي عام تصب فيه كل الخصوصيات المجتمعية دون انمحاء؛.. تماماً كألوان الطيف التي لا يلغي اتحادها في "الأبيض" الوجود الخاص لكل لون على حدة..!
إن الحقيقة المرُّة التي لا يلتفت أو لا يرغب الكثيرون في الإلتفات إليها، هي أنه يستحيل الحديث عن "حكم محلي كامل أو واسع الصلاحية أو فيدرالي" دون أن يسبق ذلك دمج وتمدين محافظات الجمهورية جميعها في بوتقة تنمية متوازنة شاملة، تنتصر لكل إيجابي وجميل،... وباعتساف هذه الحقيقة فإن أي شكل من أشكال الحكم سيجري تجريبه لن يكون بوسع "تعز" ولا سواها من المحافظات الإنتفاع منه، قدر ما سيكرس ارتهانها لأدوات مراكز قوى الحكم المتمتعة بالتمكين والجهوزية الكافية لإختزال المحافظة فيها واستفراغ نضالات الغالبية في أتون شكليات لا جدوى من ورائها!.
إن عصابات و جهويات "البداوة المسلحة" التي تُقَوِّض قِيمَ المدينة و الحد الأدنى المتوافر من وجود مؤسساتي للدولة اليوم لن تُتيح لتعز على المدى القريب ؛ حتى إمكانية الإدعاء بأنها أكثر مَدَنِيةً من "العصيمات" أو أقل بداوةً منها......و سيكون بوسع هذه الخلطة الغريبة على المدينة أن تقدم نفسها غداً كممثل شرعي للطيف الإجتماعي فيها إذا ما قُدِّرَ لشكل الحكم أن يتغير.....و سيمكنها من ذلك إستواؤها على أنقاض مدينة لا تشبه بتاتاً واحداً في المائة من تصوراتنا الغابرة عنها...
على تعز ألا تقف الحياد طويلاً إزاء هذا الخراب الذي يضرب مجتمعها بمثابرة تحت ذريعة "إثبات الفحولة" فكل قوة تُكْتْسب بـ"عصا الشيخ و زناد القبيلي" هي ضعف و كل كرامة هي هَوَان.

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 0 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.