الاختلاف نصرة ..لا طائل من محاولة اقصاء الآخر واخراسه
فرزتنا الأحداث الأخيرة في المنطقة الجيوسياسية المسماة بالشرق الاوسط إلى مجموعات وتيارات تخندقت خلف قيادات وزعامات وأيديولوجيات وفي أحيان أخرى خلف دول وأحزاب وتيارات استطاعت أن تملي وجهة نظرها ورؤيتها على الأتباع طوعا أو كرها، مما أدى في كثير من الصور إلى القطيعة مع الآخر وإن كان هذا الآخر من أقرب الأقربين ويتـــقاطع معه في كثير من رؤاه وأفكاره، وتزداد هذه القطيعة يوما بعد آخر لدرجة تصل في بعضها إلى الاحتراب البيني الذي بات من أبشع صور التشرذم والشتات .
جميع التيارات والمدارس الفكرية الدينية وغير الدينية لديها من الأطر الفكرية والرؤى ما يدعم حماية الاختلاف ويتبناه حماية للحقوق الفردية والاجتماعية، وأبسط صور الاختلاف التعبير عن الرأي وحمايته، فحرية التعبير هي حرية الآخر قبل حريتك ورأيه قبل رأيك كما يقول البروفيسور تشومسكي: 'إذا كنت تؤمن بحرية التعبير، فأنت تؤمن بحرية التعبير عن الآراء التي لا تعجبك'، وينبغي أن تدافع بكل ما أوتيت من قوة ليصل رأي الآخر باعتباره وصولا لرأيك وحماية لنفسك وتحصينا لها من الاستبداد كما يقول الشاعر الفرنسي فرانسوا ماري أرويه المعروف بفولتير: 'قد أختلف معك في الرأي ولكنني على استعداد أن أموت دفاعًا عن رأيك'. ولا ينبغي النكوص عن هذا المبدأ فليس بالضرورة ان تتبنى فكرة الآخر للدفاع عنها، كما أن مهاجمتهم لك لا تسقط حقهم في هذا الدفاع .
فلا طائل من محاولة الإقصاء للآخر وإخراسه فهذه المحاولات تأتي عادة بعكس المرتجى منها، وشخصنة خلافاتنا وتحويلها إلى الأفراد بل أن تكون مقارعة للأفكار والنظريات، وليس بالخافي ما آل إليه الوضع في المنطقة من تطور للخلاف بين التيارات والجماعات شارك الجميع فيه إما بالتحزب والانحياز أو بالفرجة والسلبية، وصلت إلى حد التحريض على بعضهم وتجييش الأتباع والأنصار نصرة لرأيهم وإقصاء وعزل الآخر وكل يقول قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، في احتراب لن يعود علينا إلا بمزيد من الضعف والهوان.
وتبرز هنا مظاهر لهذا الإقصاء وصيغ للفرز في أشكال مختلفة وتحت مسميات متعددة ومنها :
1 - الفرز الديني والطائفي :
غدت موجة التصنيف الديني والطائفي في أوجها في العالمين العربي والإسلامي، وأصبح القتل على الهوية الدينية والمذهبية لدرجة أن الأقليات الدينية وصل بها الرعب هجر أوطانها أو الانفصال عن أوطانها الأم، والصراع المذهبي في أوجه بين السنة والشيعة كنتيجة للانسياق القطيعي المبرمج لحتمية الصراع بين معسكرين متقابلين 'هلال شيعي مقابل حزام إخواني صاعد متماهي مع التيار السلفي التقليدي' أُريد منه إشغالهم ببعضهم واستنزاف المال والجهد والوقت وسخرت له الجهات الداعمة لهذه التيارات آلة إعلامية وتمويل سخي، فالصراع الآن خرج من إطاره صراع بين أديان وطوائف إلى صراع دولي يتم فيه استقطاب الأنصار والمريدين وفق المصالح السياسية وصنع التوازنات الإقليمية مستندة إلى مقدار المنفعة في غلاف ديني وطائفي .
2 - النبرة القومية والعنصرية :
القومية ليست سيئة في جميع صورها بل قد تكون شكلا من أشكال الانتماء الإيجابي لكنها حين تقرن بالعنصرية تصبح آفة اجتماعية ومعول هدم للبناء الوطني والإقليمي كنتيجة حتمية للفرز والتمييز العنصري قد تقوم به الأكثرية أو تمارسه الأقلية، وينبج عن ذلك كما تصفها الأدبيات السياسية 'تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم' كما هو حاصل في بعض الأقاليم الكردية والتركمانية أو تلك في جنوب السودان، أو استعداء الآخر المختلف في القومية واستدعاء التاريخ كما هو حاصل في التنابز القومي بين العرب والفرس بدعوى عبادة الأصنام هنا والمجوسية هناك.
3 - التطرف وغياب الوسطية :
ساعد في تنامي اتجاه التطرف نمو تيارات دينية ذات أيديولوجيات تحرض على اقصاء الآخر وكراهيته من جانب، وكذلك ظهور جماعات متطرفة من رحم جماعات وتيارات دينية لا تتبنى الكراهية والإقصاء والتطرف كعقيدة، وساهم في بروزها الدعم السياسي من دول كبرى في المنطقة بالمال تارة والدعم اللوجستي أخرى، كما تسانده في بعض البقاع سياسات دولية لما فيها خدمة لمصالحها ودعم لاستراتيجياتها في السيطرة والنفوذ حينا وترويج لبضائعها العسكرية ومشاريعها السياسية، والذي يعده البعض حقا لتلك القوى الدولية ويتساءل في ذات الوقت، أين إرادة المعنيين وقرارهم؟. وفي الجنبة الأخرى يلاحظ المراقب تغييب القوى الوسطية وأصواتها لصالح التطرف فلا تجد لها منابر إعلامية مقابل المئات من الوسائط الإعلامية للمتطرفين، ولا دعم مالي يراد له أن يخدم هذا المشروع أمام عشرات المليارات وربما مئات المليارات لدعم الطرف الآخر.
4 - الفرز القبلي والمناطقي في الدولة الوطنية :
'التشظي' هو العنوان الأبرز للدولة الوطنية بعد موجات تسونامي 'الربيع العربي'، فالانقسامات داخل الوطن الواحد لم تتوقف عند الحدود الطائفية ولا المناطقية ولا القبلية، بل أضيفت لها مجموعة أخرى من حزبية وارتباطات فكرية كالليبرالية واليسارية وإسلامية، ولو كانت هذه الاختلافات تقف عند حدود التدافع والمنافسة المشروعة لكانت تعبر عن حالة صحية، لكنها حطت في ركب التشرذم والصراع المرضي تغذيه في كثير من الأحيان أجندات سلطوية وتنسبه في نفس الوقت إلى أجندات خارجية ومحاور إقليمية .
' الاختلاف نُصرة ' في حال فطنّا الدرس من جوانبه المختلفة التي منها أن تغذية الخلاف مصلحة للعدو المشترك تضعفنا عن مقاومته وتقف سدا مانعا أمام تحصيل الحقوق التي ينتزعها العمل الجمعي، وفي جانب آخر أن خياراتنا من الأجدى أن تتعدد سبلها وتكتيكاتها ففي ذلك حماية لها، وختاماً أن نُصرة بعضنا لبعض في خياراته وإن اختلفنا حولها قوة لنا من ناحية ومن ناحية أخرى لا تحتاج إلى جهود كبرى وعمل كالذي نعوزه في التسقيط والتسفيه للآخر ومشروعه ..
لمحة: الحياة مليئة بالحجارة .. لا تتعثر بها، بل اجمعها وابن بها سلماً تصعد به نحو النجاح.
كاتب سعودي
نقلا عن القدس اللندنيه
- قرأت 584 مرة
- Send by email
أضف تعليقاَ