كلمة السيد / عبد الملك بدر الدين الحوثي في ذكرى عاشوراء 1434هـ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه المبين " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" وصلوات الله وسلامه على خاتم أنبيائه ورسله محمد وآله الطاهرين.
أيها الإخوة الأعزاء .. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وعظم الله لنا ولكم الأجر، وأحسن لنا ولكم العزاء في ذكرى مصاب سيد الشهداء سبط رسول الله، سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين ابن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ونحن أيها الأخوة الأعزاء عندما نتحدث ونستذكر هذه الفاجعة التي هي الحدث الأبرز في هذا الشهر شهر محرم الحرام، عندما نتحدث عن هذه الفاجعة والذكرى المؤلمة فإنا نتناولها ونتطلع إليها من واقعنا وواقع أمتنا، الواقعِ الجريح، الواقعِ المؤلم، الواقع الذي هو في ذاته امتدادٌ لذلك الواقع الذي تضمن تلك الحادثة والمأساة، نتطلع إليها من نفس المأساة ونحن نعاني من نفس الحدث من كل أسبابه وعوامله ونتائجه، نتطلع إليها ونستلهم العبر والدروس التي نحن في أمس الحاجة إليها، خصوصاً وقد بات من الواضح لدى الأمة بكلها ضرورة التغيير وإصلاح الواقع، وبات هناك قناعة تامة بأن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة بات واقعاً لا يطاق ولا يمكن الإستمرار عليه.
عندما نتحدث عن هذه الذكرى على أساس الإستفادة منها وعلى أساس أنها تعنينا كأمةٍ مرتبطةٍ بالرموز العظماء، الرسول محمد صلوات الله عليه وعلى آله خاتم النبيين، وكذلك ذريته وعترته من بعده الذي أوصانا بالتمسك بهم مع القرآن الكريم، الثورة الحسينية القرآنية المحمدية مليئةٌ بالدروس حافلةٌ بالعبر لا يمكن أن تستوعبها محاضرة، ولا يمكن أن يحيط بها مقام، ونحن في هذه المحاضرة نتحدث عن درسٍ واحد عن عبرةٍ واحدة تكون محور حديثنا في هذا اليوم.
نحن أيها الإخوة الأعزاء عندما نتحدث عن هذه الحادثة ذلك أن العوامل والأسباب التي صنعت مأساة كربلاء هي نفسها وذاتها التي صنعت مأساة العصر في كل الواقع الإسلامي، وهي صنعت مآسي أمتنا في كل المراحل الماضية، الأسباب والعوامل واحدة جعلت واقع أمتنا الإسلامية في كل مراحل تاريخها وفي ماضيها وأيضاً في حاضرها يكون الأبرز فيه هو المأساة. المأساة هي الأبرز في واقع الأمة الإسلامية وهي التي تطغى على كل الاعتبارات الأخرى والأمور الأخرى، بمعنى أن أمتنا الإسلامية ضلت تعاني على مر التاريخ وإلى الآن معاناةً كبيرة من الظلم والاضطهاد والقهر والأسى كان حالاً ملازماً لها عبر تاريخها، الأحداث المأساوية والإجرام الكبير، الطغيان الشامل هو المتحكم في واقع الأمة، وهو المهيمن عليها، وهو من يرسم معالم واقعها، وهذا عجيب وغريب في واقع أمةٍ تدعي الإيمان وتنتمي إلى الإسلام دين الله العظيم المقدس والذي يجب أن تكون ثمرة الإنتماء إليه والتمسك به والتخلق بأخلاقه والتحلي بقيمه زكاءً في النفوس، وطهارة في القلوب، واستقامة في السلوك، وصلاحاً في العمل، وسداداً في القول وبالتالي إقامة العدل في الحياة، ونشر الخير، والأمر بالمعروف، وصلاح واقع الحياة.. فلماذا.؟ لماذا كان واقع أمتنا المسلمة عبر تاريخها في معظم محطاته ومعظم مراحله واقعاً ملؤه الأسى والشقاء والمعاناة والقهر والإضطهاد، ولماذا تكون المأساة هي الأبرز في تاريخنا، في ماضينا وفي حاضرنا.
الإسلام هو دين مرتبط بالله سبحانه وتعالى وهو صلة به، وأخذٌ بتعليماته، وفي الإسلام ما يضمن بناء الإنسان وإصلاحه وتزكيته، ذلك إذا انتمى إليه بصدق ووعي، إنتماءً صحيحاً وبوعي، رموز هذا الإسلام والقدوة في صراطه ومنهجه هم أنبياء الله سبحانه وتعالى وآخرهم خاتمهم محمد صلوات الله عليه وعلى آله، القدوة الأول، والقائد الأول، والمعلم الأول، والذي يجب أن يكون ارتباط الأمة به على هذا الأساس إرتباطاً أولياً قبل كل شيء، والرسول صلوات الله عليه وعلى آله هو نعمةٌ من الله، ورحمةٌ من الله، أنعم الله به على العالمين والنعمة به على أمته المنتمية إلى نهجه التي تُقرُ له بالنبوة، النعمة عليها أعظم وأكبر، الله سبحانه وتعالى يقول "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" فدينٌ منهجه من الله وتعليماته من الله ورموزه الأنبياء والقائد فيه والمعلم والمرشد هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمهمة كهذه، مهمة إلهية فيها تزكيةٌ للنفوس، فيها تعليمٌ للحكمة ولكتاب الله، لمنهج الله، هداية بنور الله، دينٌ هو هكذا يجب أن تكون ثمرة الإنتماء إليه ثمرةً عظيمةً في الواقع، صلاحاً في واقع الحياة أن يكون العدل وأن يكون الخير هو السائد في واقع هذه الأمة، وأن تكون هذه الأمة في أنفسها من حيث الزكاء والطهر والإستقامة والصلاح ومن حيث الصلاح في العمل والإستمرارية والثبات على النهج الحق، كان يفترض أن يكون شيئاً متميزاً وواضحاً وسائداً في واقع الأمة، لكن ما حصل كان مختلفاً تماماً.
ولذلك نقول أن من دلالات مأساة كربلاء أنها كشفت مدى ما وصلت إليه الأمة من انحرافٍ عن منهج الإسلام، وعن مبادئ الإسلام، وعن رموز الإسلام الحقيقيين وعن قيم وأخلاق الإسلام فكان هناك فجوة كبيرة جداً ما بين الإسلام في منهجه الحق، في قيمه المثلى وأخلاقه العظمى ورموزه الأبرار، وما بين واقع الأمة في اتجاهاتها في مواقفها في مسيرة حياتها، في تاريخ الأمة في ماضيها وفي حاضرها أيضاً العدد الكبير من الأحداث والمواقف والوقائع والمحن التي تُجلّى وتكشف واقع الأمة وما فيه من خلل إلا أن مأساة عاشوراء هي الحدث الأبرز والأكبر وأكثرها كشفاً وإيضاحاً لحقيقة الواقع ومدى ما وصل إليه الواقع.
إذاً يتضح لنا أن مشكلة الأمة هي في الإنحراف.. الإنحراف الذي شاب انتمائها للإسلام في منهجه، وفي رموزه، وفي أخلاقه، وفي قيمه، وفي مبادئه، واكتفاءها بالشكليات، بعض الشكليات وبعض العبادات المحدودة، وبالتالي لم يكن هناك من ثمرة للإسلام في واقعها حينما أصبح شكلاً لا مضمون له، ضاعت الكثير من الأساسيات وأُبعد عن المنهج والرموز الحقيقيين وهنا ندرك أهمية الإنتماء الحقيقي الصادق الواعي إلى الإسلام.
إن ثمرته عبوديةٌ لله، وسمعٌ وطاعة، وإرتباطٌ عملي ٌبمنهج الله، وارتباطٌ عمليٌ صحيحٌ بالقدوة، والتزام بالأخلاق، وتحلٍ بالقيم وثمرة هذا الإنتماء في واقع الحياة عدلٌ، وخيرٌ، ووحدة، ورحمة، وأخوة، وعزة، وقوة، ورعايةٌ وبركةٌ من الله سبحانه وتعالى، لذلك يجب أن تبدأ عملية التصحيح في الذهنية لدى الفرد المسلم من هذه النقطة، الإنتماء الصحيح للإسلام الذي يثمر أثراً في الواقع، أثراً عظيماً مختلفاً عن الأثر الذي طغى على واقع حياة أمتنا.
إن الإنتماء إلى الإسلام الإنتماء الصحيح وحتى مجرد الإنتماء هو التزام وهو ميثاق بين الإنسان وربه، عندما تحسب نفسك إنساناً مؤمناً، وتَدَّعي الإيمان، أنت تقطع ما بينك وبين الله إلتزاماً، وأنت توثق الله ميثاقاً على السمع والطاعة والإلتزام التام، والسير على نهجه، والتقبل لأمره، والإنتهاء عن نهيه، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى منكراً حتى تتذكر أهمية هذا الأمر "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" حينما يكون إنتماء الإنسان إنتماءً شكلياً لا ينبع من إرادةٍ حقيقيةٍ من داخل قلبه من ذات صدره، الله سبحانه وتعالى هو عليمٌ بذات الصدور، وأكبر ما يدلل ويكشف واقع الإنسان في مصداقيته في انتماءه إلى الإسلام.. إلى الإسلام في مبادئه، إلى الإسلام في قيمه، إلى الإسلام في أخلاقه، ما يكشف مصداقية الإنسان هي المواقف والأحداث الكبيرة، والمتغيرات المتنوعة، والتحديات والأخطار، لقد شاء الله وأراد أن يكشف واقع عباده، وأن يجليهم من خلال الأحداث والمتغيرات التي تحمل في طياتها عوامل مؤثرة وكاشفة لواقع الإنسان ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى " أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يُجلِّي واقع عباده ومصداقيتهم في انتمائهم للإيمان من خلال الأحداث، من خلال المواقف، من خلال المتغيرات التي فيها تحديات وأخطار، لا يمكن أن نغالط الله ولا يمكن لأحد أن يخادع الله، ولا يمكن للزيف أن يبقى هو مُغطِّياً على الحقيقة، هذه إرادة الله، لا يمكن أن يكفي الواقع الشكلي القائم على المزاعم والإدعاءات، التلبس بالإسلام، التلبس بالإيمان، بينما في الواقع العملي في الواقع الحقيقي للإنسان، في توجهه الحقيقي من داخل قلبه لديه اتجاه آخر ولديه غش ولديه عوامل مؤثرة تبعده عن نهج الله وعن التسليم لله سبحانه وتعالى، الإبتلاء أيضاً فيما يتعلق بالمسئولية " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" حينما تكون الأوضاع مستقرة ولا تبرز التحديات تكثر المزاعم ويكتفي الناس بالشكليات ليدللوا منها على ما هم عليه وما يدعونه، لكن إرادة الله سبحانه وتعالى أن يكشف الواقع ويدلل على الحقيقة بما يدل عليها بصدق ولهذا عندما يقول "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" حتى يتضح حقيقة ما الإنسان عليه مدى مصداقيته مع الله، توجهه إن كان محقاً أو كان مغشوشاً، لذلك ينبغي أن يلتفت الإنسان إلى أهمية الصدق مع الله والإرتباط الوثيق به، لا يبني الإنسان مسيرته الإيمانية وتوجهه الإيماني على الزيف، لا يغش نفسه ولا يخادع نفسه ويبني واقعه على الزيف من دون ارتباطٍ وثيقٍ بالله سبحانه وتعالى وأخذٍ بأسباب التوفيق تفادياً للسقوط، وعوامل السقوط أمام الإختبار الإلهي، أمام الأحداث والمتغيرات، عوامل السقوط هي واحدة أمام كل حدث في كل عصر وفي أي زمن، عوامل واحدة، أساسها السلبي الموقف من هدى الله سبحانه وتعالى عندما يكون موقفاً سلبياً، عندما لا يرتبط الإنسان بهدى الله الإرتباط الوثيق، إرتباط الإهتداء والإستبصار والتمسك، والإتباع، والإستفادة منه في الواقع التربوي لزكاء النفس وطهارة القلب، يتفرع عن هذا العامل الأساسي عوامل متعددة، في مقدمتها التظليل .. التظليل للإنسان عندما لا يتحصَّن الإنسان بهدى الله يكون لديه قابلية كبيرة لأن يتأثر بما يصدر من الآخرين، ما يصدر من تضليل، من أباطيل، من دعايات، فيكون عرضةً للتأثر بهم، والسلوك في نهجهم، والإتباع لهم، والكون في معيتهم، من العوامل الأخرى، حب السلطة وهذا من أكبر الأخطار ومن أكبر وأسوأ العوامل التي انحرفت بالكثير من الناس عن نهج الله وعن دين الله سبحانه وتعالى، وكان هذا بارزاً في مأساة عاشوراء، كان من أبرز المواقف السلبية، موقف عمر ابن سعد ابن أبي وقاص، وواضح أن ما جره إلى ذلك المنزلق الخطير والجرم الكبير في قيادة الجيش الذي يتوجه لارتكاب الجريمة الكبرى الفضيعة للغاية، وهي قتل الإمام الحسين عليه السلام ومن معه من أبناءه وأبناء أخوته وأقاربه وأصحابه الشرفاء والأتقياء الأبرار، كان حب السلطة، كان عمر ابن سعد طامعاً في الحصول على ولاية الري، والري منطقة معروفة في إيران، وحبه للسلطة وهوسه بها ونزوع نفسه إليها جعلته مستعداً أن يعمل أي شيء، أن يعمل أي شيء، مستعدٌ لارتكاب أي جريمة حتى جريمة بهذا الحجم، جريمة بهذا المستوى، قتل سبط رسول الله سيد شباب أهل الجنة، وريث النبي الأكرم صلوات الله عليه وعلى آله، هادي الأمة والذي يجب أن تلتف حوله الأمة في عصره لتهتدي به لتسير على نهجه، ليكون هو من يبني واقعها، من يصلحُ واقعها، الرجل العظيم لم يكن هناك من ممانعة لدى عمر ابن سعد أن يرتكب هذا الجرم بحق هذا الرجل العظيم واشتهر عنه وهو يراجع نفسه بين اتخاذ هذا الموقف والإقدام على هذا الجرم، أو النكوص عنه فيخسر مثلما يتصور أنها خسارة ولاية الري، وبقي يراجع نفسه كما يقولون في الروايات ليلة كاملة، ويردد شعره المشهور :
فو الله ما أدري وإني لحائرٌ .. أفكر في أمري على خطرين .. أأترك ملك الري والري منيتي .. أم أرجع مأثوماً بقتل حسين .. وفي قتله النار التي ليس دونها .. حجاب وملك الري قرة عيني.
الهوس الشديد لحب السلطة والنزوع الشديد إليها، جعله يرجح ملك الري وهو يدرك أن في قتل الإمام الحسين عليه السلام عذاب الله والمصير إلى جهنم، أم أرجع مأثوماً بقتل حسين .. وفي قتله النار التي ليس دونها . ثم يتخذ الخيار الأحمق والأسوأ ملك الري ولو كان بعده النار، ولو كان بعده الخسران الدائم، ولو تورط في سبيل ذلك لارتكاب الجرم الأكبر والأفظع والأقبح لم يكن لديه تردد.
على مدى تاريخ أمتنا في الماضي وأيضاً في الحاضر نرى أثر هذه الآفة وضررها الكبير الذي لحق بالأمة، هذه النوعية من الناس في أوساط الأمة المهووسون بالسلطة، الذين يمكن أن يعملوا أي شيء بأمتهم، أن يرتكبوا أي جرم، وأن يقدموا على أي حماقة أن يفعلوا أي شيء في مقابل الوصول للسلطة، هم كثر. كثر في تاريخ أمتنا، وفي حاضر أمتنا، والبلاء الشديد الذي ألحقوه بالأمة، والضرر البالغ الذي لحق بالأمة من خلال هوسهم ونتيجةً لطمعهم وجشعهم، هو ملحوظ طال كل شيء في واقع الأمة في دينها ودنياها، في أخلاقها، في قيمها، في عزتها، في كرامتها، وللأسف الشديد مما ساعد هذه النوعية داخل أوساط الأمة هو التفاف الكثير من الناس حولهم، عندما يلتف حولهم الكثير من الناس لقصور وعيهم وضعف إيمانهم وعوامل أخرى سيأتي الحديث عنها، تحل الكارثة الحقيقة بالأمة، وتكون النتائج السلبية التي لا حدود لها تطال كل شيء في واقع الأمة أمراً ملحوظاً، من الآفات الكبيرة حب المال، النزعة المادية التي هي قائمة وموجودة لدى الكثير من الناس، فمقابل الحصول على شيء من المال هو مستعد أن يعمل أي شيء، أن يرتكب أي جرم، أن يكون في صف أي مبطلين أو مجرمين أو مضلين، لا معيار لديه في موقفه لا الحق ولا رضا الله سبحانه وتعالى، ولا القيم، ولا الأخلاق ولا المبادئ، المعيار هو المال، هو كل شيء عبادة .. عبادة للمال هو كل شيء، من يدفع له أكثر ويقدم له المال فسيعمل له أي شيء مهما كان جرماً وذنباً ومسيئاً ومخالفاً لنهج الإسلام، و لا ينسجم لا مع قيم ولا مع أخلاق، هذه الآفة نرى أيضاً ضررها في عصرنا هذا، ربما الملايين من الناس داخل شعوب أمتنا لا يزال المؤثر الأكبر عليهم في توجههم، في مواقفهم، في خياراتهم التي يحسمونها في أي صفٍ يكونون، ومع أي طرف هو هذا المؤثر المال.. المال، ودوره السلبي في واقع الأمة معروف.. معروف، وللأسف الشديد يمكن للأمة أن تنال ما منحها الله من البركات والرزق والخير، بعزة وشرف واستقامة بدون أن تُعَبِّد أنفسها للطواغيت، وبدون أن تسترزق لدى مجرمين ولدى سيئين.
هذا العامل كان عاملاً مؤثراً في أحداث كربلاء، في مأساة عاشوراء والكثير من الناس الآلاف ممن تحركوا لقتال الإمام الحسين عليه السلام تحركوا لهذا السبب مقابل المال، وعندما هددوا بمحو أسمائهم من الديوان، والديوان عبارة عن السجلات الرسمية التي فيها أسماء من لهم مقررات من المال العام، ومعاشات من المال العام، عندما هددوا بمحو أسمائهم من الديوان إنطلق الكثير منهم ليقف في وجه الإمام الحسين، في وجه سبط رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله ضد الحق، ضد العدل، ضد القرآن، في جناية على الإسلام كانوا مستعدين لفعل أي شيء وبشكل فضيع وبدون أي قيم أو مبادئ، تجاوزوا حتى الواقع الإنساني وحشية فضيعة جداً، هذا العامل المؤثر الموجود هو من العوامل البارزة التي تتحكم في موقف الكثير من الناس على مستوى الحاضر والماضي.
من العوامل المؤثر جداً أيضاً الخوف.. الخوف عامل مؤثر والكثير أيضاً بما أنه انطلق الآلاف لقتال الإمام الحسين عليه السلام رغبةً وطمعاً في القليل من المال وواقع الناس واقع الأمة على مستوى كبير يطال كثيراً من جماهيريها في كل العصور أن يندفعوا وأن يتأثروا بهذا العامل، عامل الخوف أيضاً هو عامل مؤثرٌ سلباً في الكثير من الناس، فالكثير ينقصهم الخوف من الله سبحانه وتعالى الذي من الحق والواجب أن نخاف منه فوق كل شيء "فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" " أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" لكن هذا العامل عند قاصري الوعي وناقصي الإيمان كان مؤثراً، لقد كفى هذه النوعية من الناس داخل الكوفة دعاية .. دعاية أخافتهم .. أخافتهم وجعلتهم ينطلقون بالآلاف وهم حريصون على أن يُفذوا مهمتهم الإجرامية القذرة بحق سبط رسول الله وأسرته ومن معه من أتباعه الأبرار الأوفياء، وبكل جد وحريصين أن لا يقصروا، أن لا يُتهموا بالتقصير فيعاقبوا، كفاهم دعاية واحدة، نشر ابن زياد دعاية في الكوفة - أن جيش الشام قادم وأنكم إن لم تخرجوا لقتال الحسين فإن جيش الشام سيهدم دوركم وسيقتل وسيفعل - فانطلق الكثير منهم وبكل سرعة حذرين من التقصير، وحريصين على أن يؤدوا مهمتهم بالشكل الذي يرضي ابن زياد، لقد بلغ واقع الحال أن ابن زياد كان لديه ثلاثين شرطياً .. ثلاثين شرطياً، والآلاف هم أولئك الذين أثَّر عليهم بهذه العوامل، جمهور الكوفة، الآلاف من أبناء الكوفة، أثَّر عليهم البعض بعامل المال، البعض بعامل الخوف، البعض بالتضليل وزعماؤهم وكبارهم الذين هم تواقون إلى السلطة وعندهم النزعة التسلطية بالوعود ببعض المناصب والتي لم يصلوا إليها بما فيهم عمر ابن سعد، لم يحض أبداً بملك الري وكان الواقع كما أنذره الإمام الحسين عليه السلام، الشيء المؤسف عندما نعرف أن مجتمع الكوفة هو مجتمع عاش بينهم الإمام علي عليه السلام، عاصمة الإمام علي عليه السلام، والكثير من أولئك هم كانوا ضمن جيش الإمام علي عليه السلام، حاربوا مع الإمام علي عليه السلام، ثم كانوا في الأخير هم الجيش الذي يتمكن ابن زياد ومعه ثلاثين شرطياً من التأثير عليهم وتحريكهم بأجمعهم في الموقف الإجرامي الفظيع، والجناية الكبيرة على الإسلام وعلى القرآن وعلى الأمة، على الأمة على مدى مستقبلها.
ولذلك الدرس المهم لنا الذي يجب أن نستفيد منهم هو الحذر من عوامل السقوط، وأن ندرك ضرورة الإرتقاء الإيماني الذي يمنح الإنسان تماسكاً عند المزلاَّت، ويكون له دفعاً وعوناً للإستمرار والإستقامة والثبات، كل فرد منا يجب أن يدرك جيداً أن عليه أن يتعامل بجدية مع هدى الله سبحانه وتعالى، أن يبني واقعه الإيماني وانطلاقته الإيمانية على أساسٍ صحيح. على أساسٍ صحيح لأن التهاون في مرحلة ما قبل الإختبار أحيان تأتي حوادث كبيرة تمثل اختباراً كبيراً للإنسان في توجهه واندفاعه، في هذه المرحلة التي يتهاون فيها الإنسان، ويتعامل بلا مبالاة ويُقصِّر في كثيرٍ من واجباته ومسئولياته، ويُهمل تجاه الأشياء المهمة التي يجب أن يكون مسارعاً فيها ومبادراً إليها، الإنسان بهذا يُسبب لنفسه أن يهدم نفسه، تأتي الأحداث الكبيرة والتطورات الخطيرة وهو لم يحسب حسابها ولم يرتقي إلى مستواها، وبالتالي يجد نفسه أمامها في موقف لم يكن يتوقعه، لم يكن يتوقع من نفسه أنه سينحرف إلى ذلك المستوى من الإنحراف أو يسقط إلى ذلك الحد من السقوط، ولربما الكثير من الجيش الذي تحرك لقتال الإمام الحسين عليه السلام بما فيهم الآلاف الذين كانوا من جيش الإمام علي نفسه لم يكن يخطر ببالهم أنهم يوماً من الأيام سيكونون في ذلك الموقف، يوماً من الأيام يتحركون لقتل سبط رسول الله وهم يعلمون من هو، يعلمون مقامه العظيم في الإسلام ، يعلمون أنه من يجب أن يتبعوه، أن يهتدوا به، أن يحبوه، أن يقدروه، أن يدركوا مقامه العظيم كوريث لجده المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله، يعرفون فداحة الجرم المرتكب بحقه، ومع هذا فساد النفوس والإنحطاط الكبير وضياع القيم والأخلاق والمبادئ، كانت قد أوصلتهم إلى درجة لا يبالون معها بأن يرتكبوا مثل هذا الإجرام، ومثل هذه الحماقة.
يجب على كل فرد منا أن يدرك أهمية هذا الأمر، نحن في مرحلة خطرة، وأمام تحديات كبيرة، وفتن كثيرة كقطع الليل المظلم، والعوامل نفسها التي أدت إلى سقوط الآلاف من ذلك المجتمع الذي كان يحكمه علي، ومن ذلك المجتمع حتى مجتمع المدينة مدينة الرسول صلوات الله عليه وعلى آله، وبقية المجتمعات الإسلامية التي كانت قد وصلت إلى حالة من التدجين، ومن التضليل، ومن ضياع القيم والأخلاق والمبادئ، جعلتها قابلة بأي ظلم بأي جريمة، بكل ما حصل.
المسألة خطرة جداً يجب أن يسعى الإنسان إلى بناء واقعه الإيماني، ويكون حريصاً على الإرتقاء المستمر في وعيه، في إيمانه، حذراً من التقصير، حذراً من التفريط، حذراً من التهاون، يدرك أن التهاون نتيجته سلبية وكبيرة على الإنسان في مستقبله وأمام أي تحديات قد يفاجأ الإنسان بها وهو غير مستعدٍ لها.
ولندرك أن الأسلوب الشيطاني لاستدراج الإنسان هو قائمٌ على أساس الخطوات، خطوات الخطوة تلو الخطوة وبتدرج حتى يوصل الإنسان إلى مستوى سيئ نتيجة تهاونه، نتيجة لا مبالاته، نتيجة غفلته، ولذلك حذرنا الله سبحانه وتعالى من اتباع خطوات الشيطان، خطوات الشيطان تسير بالإنسان في أحد اتجاهين، إما اتجاه الإقدام على الآثام، الإقدام في الباطل، عندما يدفعه إلى أن يقف في صف الباطل نتيجة مال، أو نتيجة وظيفة، أو نتيجة مصلحة آنية يخسر بسببها مستقبله الكبير مع الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، أو خطوات أخرى باتجاه التراجع فيستدرجه ليخرجه عما هو عليه من حق وتوجهٍ سليمٍ وصادق، ويفسد نفسيته ليهيئه للسقوط أكثر فأكثر حتى يصل إلى الموقف والحال الأخطر.
أيضاً نلحظ كيف يجب أن تكون الحسابات الصحيحة، الناس ينسون ويتغافلون ويتجاهلون الأشياء المهمة، عندما تطرأ الكثير من الأحداث والمتغيرات تكون الدوافع لدى الكثير من الناس دوافع سيئة ليس لديه أي معايير قرآنية ولا إيمانية، فلا يُحسب حساب المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى، ولا يُحسب حساب الموقف للحساب والسؤال يوم القيامة، ولا تُحسب حساب مرضاة الله سبحانه وتعالى، وهكذا يبقى المعيار الذي يحسب الإنسان حساباته عليه هو المصلحة الآنية التي هي متاعٌ زائل والخسارة بعده كبير، الحسابات الصحيحة للإنسان المؤمن الذي يراجع موقفه على أسس صحيحة فيحسب الحسابات الكبيرة مثلما كان موقف الحر ابن يزيد الرياحي عندما راجع نفسه وهو اتجه بدايةً في صف الباطل في جند يزيد في طلائع جيش عمر ابن سعد، وهو وصل في البداية ليكون هو أول من يصل إلى الإمام الحسين عليه السلام، لكن هذا الرجل عندما أعاد حساباته وراجع نفسه وعلى أسس صحيحة سرعان ما غير موقفه واتجه الاتجاه الصحيح قبل أن تبدأ المعركة، بدأ يراجع نفسه، وبدأ يحسب الحسابات التي يبني عليها موقفه، وظهر عليه التردد تارةً يتقدم وتارةً يتأخر، وعندما سأله أحد القريبين منه عن سبب هذه الحيرة، هذا التفكير، هذا التردد قال : إني أُخيِّر نفسي بين الجنة وبين النار، ووالله لا أختار على الجنة شيئاً. واتجه إلى معسكر الإمام الحسين عليه السلام ليلتحق به معلناً توبته وإنابته إلى الله، نادماً على ما كان منه أثناء تحركه في صف الباطل، وما عمله وهو يتحرك في البداية عندما ضايق معسكر الإمام الحسين عليه السلام ومنعه من التقدم إلى الكوفة وأعاقهم عن الوصول إلى هناك، تاب إلى الله وأناب وحرص على أن يأذن له الإمام الحسين عليه السلام أن يكون هو أول من يقاتل الأعداء، مثلما كان هو أول من تحرك في طليعة الجيش، حرص على أن يكفر موقفه هذا بأن يكون هو أول من يقاتل الأعداء، وأذن له الإمام الحسين عليه السلام وقال كلمته المشهورة ( أنت حرٌ كما سمتك أمك حراً ) هذه هي الحرية، الحرية الحقيقية التي تجعل الإنسان كريماً عزيزاً يتخذ الموقف الصحيح، لا يُستعبد ويُسَيّر في صف الباطل للظلم والجريمة مقابل شيء من حطام الدنيا، ومصالح الدنيا الآنية.
نحن في هذا الزمن أمام المتغيرات الكبيرة والعوامل المؤثر كما قلنا هي نفسها أحوج ما نكون للإستفادة من هذه الدروس، وأملنا إن شاء الله أن يوفقنا الله وإياكم أن نكون من المهتدين الصادقين الثابتين مع الله سبحانه وتعالى، نتحرك مع الله بثبات ووعي وصدق.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق وحسن الختام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
,وهذا رابط الفيديو للخطاب http://youtu.be/mfixqIrK29Q
- قرأت 675 مرة
- Send by email