الصماد شهيداً: فصل جديد من المواجهة

 

«سنستقبلك على خناجر بنادقنا». تلك كانت آخر الكلمات التي تَوَجّه بها الرئيس الشهيد، صالح الصماد، إلى السفير الأميركي لدى اليمن. حتى آخر اللحظات التي خَتَم بها حياته، ظلّ الرجل واعياً طبيعة المعركة وأبعادها: الأميركيون هم عرّابو عملية الحديدة خصوصاً، والعدوان السعودي ــ الإماراتي عموماً. ولذا جاء الرد على تخرّصات متملّقي ماثيو تولر بهذا الشأن من داخل الحديدة نفسها، في وقت كان فيه أزلام السعودية والإمارات يطلقون موجة تصعيد جديدة على الساحل الغربي. خاطبهم الصماد، بشجاعته المعهودة، قائلاً: «لن تجدوا في الحديدة مرتزقاً يُبلغكم مَبلَغكم»، وما مخادعة «العملاء القدماء الجدد» لكم بأن «أبناء الحديدة ضابحون وسيستقبلونكم بالورود»، إلا أوهام... «أنستقبل مرتزقتكم ليفعلوا بنا ما فعلوا بالأفارقة؟!».

 

لم يَطُل الوقت حتى غادر القائد الشاب ساح المواجهة، بعدما طمأن أبناء الحديدة، الذين يُشهَر سيف التهديدات في وجوههم هذه الأيام، إلى أنه «لا قلق إطلاقاً»، وإلى أن «أبناء اليمن سيخوضون البحر دونكم». استُشهد الصماد «ظهر الخميس (الماضي)، في محافظة الحديدة، إثر استهدافه بغارة جوية من طائرات العدوان، وهو يؤدي واجبه الوطني»، بحسب ما أعلن، أمس، المجلس السياسي الأعلى الذي كان الشهيد رئيساً له. «جريمة فظيعة» تتحمّل «قوى العدوان، وعلى رأسها أمريكا والنظام السعودي، المسؤولية القانونية عن ارتكابها»، وفق ما جزم به قائد حركة «أنصار الله»، السيد عبد الملك الحوثي، في موقف يشير إلى بصمة أميركية في عملية الاغتيال، سواء عبر تزويد «الشركاء» بالمعلومات الاستخبارية اللازمة، أو عبر الاشتراك المباشر في العملية، أو لمجرد الغطاء السياسي الذي لا يزال ممتداً على جرائم الرياض وأبو ظبي المتعاظمة في اليمن، والتي كانت آخرها مجزرة مروّعة ارتُكبت ليل الأحد ــ الإثنين في محافظة حجة، أدت إلى مصرع 33 مدنياً معظمهم نساء وأطفال، وجرح 55 آخرين.

 

المفارقة أن تحالف العدوان، الذي كانت قائدته السعودية قد أدرجت الصماد من ضمن 40 قيادياً يمنياً على ما سمّتها «لائحة مطلوبين»، راصِدةً 20 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات عنهم، لم يبادر على مدار الأيام القليلة الماضية إلى إعلان مقتل الرجل. وهو ما يمكن أن يُفسّر على وجهَين: إما أن الرياض لم تكن تعلم بأن من قتلته في الغارات الثلاث التي استهدفت شارع الخمسين في مدينة الحديدة هو الصماد نفسه، وإما أن من نفّذ التصفية هو لاعب أكبر من السعودية وإمكاناتها، وهذا الاحتمال الأخير يعزّز الحديث عن دور أميركي مفترض في العملية. لكن أياً يكن، فإن «التحالف» لم يجد ضيراً في الاحتفاء باستشهاد الرئيس السابق للمجلس السياسي لـ«أنصار الله» بوصفه «نصراً استخبارياً» و«ضربة كبرى» لسلطات صنعاء، على حدّ توصيف وسائل الإعلام الموالية للرياض وأبو ظبي.

 

احتفاء تجلّى في وقت كانت فيه القوة الصاروخية في الجيش اليمني واللجان الشعبية تواصل استهداف الداخل السعودي، مُطلِقةً، أمس، صاروخيَن باليستيَين من طراز «بدر 1» على ميناء تابع لشركة «أرامكو» النفطية في منطقة جيزان. كذلك، فاخرت دول «التحالف»، ومعها حكومة عبد ربه منصور هادي التي تعجز عن تثبيت قدميها في ما تسمّيها «المناطق المحرّرة»، بـ«الإنجاز»، في ظل خسائر إضافية كانت تلحق بمقاتلي العدوان على جبهة الساحل الغربي لليوم الخامس على التوالي. وفي المشهدَين المتقدمَين إشارة واضحة إلى أن ما تأمل السعودية والإمارات أن تجنياه من وراء تصفية الرجل الأول في سلطات صنعاء السياسية ليس إلا نتاج «السكرة» التي تعقب اللحظة الأولى.

 

أكّدت ردود الفعل في صنعاء متانة الجبهة الداخلية وتماسكها

 

يقوّي التقديرَ المتقدم الموقف الجامع والحازم الذي تمظهر في صنعاء، عقب إعلان استشهاد الصماد. موقف لعلّ أهمّ ما وسمه أبعاد رئيسة ثلاثة: أوّلها أن سلطات «أنصار الله» لم تنشر نبأ الاغتيال إلا مترافِقاً مع خبر اختيار خليفة للشهيد (مهدي المشّاط)، وهو ما يمكن أن يُقرأ سبباً في تأخير الإعلان لحوالى 4 أيام. ثانيها هو وحدة الكلمة الصادرة عن قيادات صنعاء، والتي خلت من أي «نشاز»، مُطمِئنةً إلى متانة الجبهة الداخلية وتماسكها، على الرغم من تغييب الرجل الذي لعب دوراً رئيساً في الحفاظ على قوتها إبان الأزمة التي عصفت بها في كانون الأول/ ديسمبر الماضي. أما ثالث تلك الأبعاد فهو التوعّد بردّ قوي على جريمة الاغتيال، والتعهد بمواصلة المواجهة، سواء على الجبهات أو في إدارة الدولة.

 

هذا ما أكده الحوثي بنفسه في كلمته التي أعقبت الاجتماع الطارئ للمجلس السياسي الأعلى، حيث جزم بأن «هذه الجريمة لن تمر من دون محاسبة»، و«لن تحقق لقوى العدوان أي نتيجة لصالحها، لا في مؤسسات الدولة التي اتخذت قرارها بمواصلة السير في طريق الشهيد»، ولا «على المستوى الشعبي الذي يرى في تضحية الشهيد الصماد حافزاً نحو المزيد من الصمود»، ولا على مستوى «الجبهة الداخلية والروابط في ما بين المكونات والقوى السياسية». وفي الاتجاه نفسه، شدد المجلس السياسي الأعلى على أن «الشعار الذي رفعه الشهيد (يد تبني ويد تحمي) سيكون عنواناً للمرحلة القادمة، وخارطة طريق نحو عمل مؤسّسي بنّاء، وتحرك جهادي شامل وفاعل لمقارعة قوى الغزو والاحتلال». وأعلن الناطق الرسمي باسم «أنصار الله»، محمد عبد السلام، بدوره، «(أننا) نقف إلى جانب الرئيس مهدي المشاط في حمل الراية السياسية للمجلس السياسي الأعلى... ونشدّ على يده لينهج بنهج الرئيس الشهيد»، مضيفاً أن «على كل أجهزة الدولة أن تتحمل مسؤوليتها»، وأن «الجميع ملزم بالتحرك لتقديم ردّ عملي على هذا العدوان».

 

ردٌّ برز أول ملامحه في البيان الصادر عن مجلس الدفاع الوطني، الذي عقد اجتماعاً استثنائياً عصر أمس، أعلن عقبه «حالة الاستنفار ورفع الجاهزية إلى الحالة القصوى»، مؤكداً أن «اليمن اليوم أكثر قوة وصموداً وثباتاً في مواجهة العدوان»، وأن «اغتيال الرئيس الشهيد سينال الردّ الرادع».

 

وفي انتظار الصورة التي سيتبلور عليها هذا الردّ، تتجه الأنظار إلى مراسم تشييع الشهيد، التي سيعقبها خطاب للسيد الحوثي الذي دعا أمس إلى أوسع مشاركة في تظاهرة شعبية بمدينة الحديدة، كان الصماد أعلن عنها قبيل استشهاده لـ«نقول للأميركي إنه إذا كان هناك أناسٌ يشجعونه أو يكذبون عليه بأن له موطئ قدم في الحديدة، فعليه أن يفهم أن أبناء محافظة الحديدة على قلب رجل واحد». هكذا، يتجاوز اليمنيون مصابهم بـ«الرجل المؤمن المجاهد العظيم» ــ كما وصفه المجلس السياسي الأعلى ــ بخروجهم مجدّداً إلى الساحات، ليؤكدوا أنهم «بتضحيات شهدائهم أمضى عزماً وأقوى إرادة»، ولتنفتح بذلك صفحة جديدة من مواجهة العدوان لن يُكتب فيها للسعودية والإمارات ما تتمنّيانه.

 

قبل حوالى 14 سنة، وفي وقت كان فيه اليمنيون يودّعون القائد السابق لـ«أنصار الله»، حسين الحوثي، كان شقيقه عبد الملك يعيد ترتيب صفوف «الحوثيين المغمورين»، كما يصفهم الإعلام السعودي، ليقود خمس حروب ضد حلفاء الرياض أوصلت الحركة إلى ما وصلت إليه راهناً. واليوم، لا يبدو أن ثمة شيئاً مختلفاً، سوى أن من يقود العدوان على اليمن «أكثر رعونةً» من كلّ من سبقه، وفي ذلك عامل إضافي لتحقّق الهزيمة.