أخطر من الغزو
التدخل الاميركي في الثورات الديموقراطية التي تجتاح العالم العربي من المحيط الى الخليج، هو اخطر من فكرة الاستعمار او الغزو العسكري التي يتحدث عنها او يتخوف منها بعض الكتاب المنتمين الى ثقافة القرن التاسع عشر، وهو اعمق اثرا من جميع التجارب الاستعمارية الاوروبية التي عاشها العرب والمسلمون على مدى القرون الماضية.. لانه يخترق الوعي العربي قبل ان ينتهك الارض العربية، وكلاهما يبدو هذه الايام من دون حصانة او مناعة.
تعددت اشكال هذا التدخل الاميركي وتنوعت حسب طبيعة انظمة البلدان والشعوب التي تخرج الان في الشوارع مطالبة بالحد الادنى من حقوقها في الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، لكنها تمثل القاسم المشترك الوحيد ربما بين تلك الثورات، وتوفر فرصة تاريخية لم يحلم بها الاميركيون انفسهم، ولم يتوقعوها او حتى يريدوها لا سيما في عهد رئيسهم الحالي باراك اوباما الذي كلفوه تحديدا بان ينهي حروبهم الخارجية ويقلص ادوارهم الدولية ويهتم بعلاج ازماتهم الاقتصادية.. فاذا به يصبح بين ليلة وضحاها مرشدا ينتظر العالم كله فتاواه الموجهة الى تونس او مصر او ليبيا او اليمن وغيرها، داعيا ذلك الزعيم الى التنحي او ناصحا الاخر بالحوار مع شعبه، ومحددا خريطة طريق لعمليات انتقالية للسلطة، في واحدة من سخريات القدر القاسية من سلفه جورج بوش الذي كان يهلوس بمثل هذا الدور المكرس له بتكليف من السماء!
التدخل الاميركي لم يكن بتخطيط مسبق ولا حتى بقرار. الصدفة التاريخية لعبت دورها: العالم العربي في حالة فراغ وفوضى عارمة. انظمته متهالكة وشعوبه مضطربة. وما ان اشتعلت الشرارة الاولى في تونس، حتى انكشفت وجوه الزعماء العرب واجهزتهم العسكرية والامنية، والتقطت الاجيال الشابة الاشارة بالتحرك وتحطيم تلك الهياكل الخاوية، التي لم يبق فيها ما يساعد على تنظيم اي عملية سياسية طبيعية، وهي تستدعي البدء في تأسيس الدولة او الدول، من نقطة الصفر، من كتابة الدستور الى قوانين الانتخاب وصولا الى تنظيم عمل شرطة المرور.
لكن، ومثلما كان الزعماء العرب في الماضي يتوجهون الى واشنطن طالبين العون، في مواجهة خطر اسلامي مفتعل، ها هي الشعوب العربية تتوجه بلا وعي نحو العاصمة الاميركية نفسها ناشدة المؤازرة في مواجهة بقايا الطغيان، وفي مساعي اعادة بناء دولهم على النموذج الاميركي الذي يرجح ان يصبح معتمدا بالكامل في مصر وفي اكثر من بلد عربي، يواجه ذلك السؤال المصيري من دون ان يجد في كتبه القديمة، السياسية والدينية، اي نماذج مناسبة للمستقبل.
التوجه الى اميركا باعتبارها القوة والمرجع والمثال، يعني ان العرب والمسلمين بلغ بهم الامر حد الاستسلام التام لمشيئة الدولة العظمى والغفران لاساءاتها السابقة بحقهم، وهو ما يعادل التشكيك بتلك الحقائق التي كان يفترض انها ثابتة وراسخة في اذهانهم عن ان اميركا دمرت افغانستان والعراق واباحت ذبح الشعب الفلسطيني وانهاء قضيته، وباتوا يعملون وفق سلم اولويات خاص، مغاير لكل ما عرفته الامة من قبل.
الشعوب لا تخطئ، لكن هذا التوجه اخطر بما لا يقاس من غزو عسكري اميركي يقاومه نفر من المؤمنين بالجنة، الذين يفتعلون الفتن في الطريق اليها.
نقلا عن صحيفة السفير اللبنانية
- قرأت 454 مرة
- Send by email