اليمن .. سنة أولى ثورة .. ( 2-3 )

1/1 في يوم 15 يناير/ كانون الثاني من العام الماضي، خرج طلاب جامعة صنعاء في تظاهرة تحتفل بانتصار الثورة التونسية وسقوط أول رئيس نظام، كما استمروا ضمن تظاهرات نظمتها المعارضة لمناهضة مشاريع نظام الرئيس علي عبدالله صالح في تعديل الدستور والقانون الانتخابي في التعبير عن غضبهم بالتظاهر بشكل يومي، فيما عزز سقوط ثاني رئيس نظام في مصر فرصهم في إسقاط النظام المستمر منذ 33 سنة . في مدينة تعز “جنوبي العاصمة صنعاء”، احتشدت مجموعة صغيرة يوم 11 فبراير/ شباط في تظاهرة احتفالية بسقوط نظام مبارك، ورفعت التظاهرة لأول مرة شعارات تطالب بإسقاط النظام، وفي نفس اليوم قرر شبان، وهم بالعشرات، الاعتصام في إحدى ساحات المدينة التي أطلق عليها لاحقاً اسم “ساحة الحرية” . تزامن ذلك مع خروج مجاميع شبابية صغيرة من طلاب الجامعات والناشطين الحقوقيين في العاصمة صنعاء بتظاهرة للمطالبة بإسقاط نظام صالح تعرضت تالياً لهجمات بالهراوات والعصي والخناجر على أيدي قوات الشرطة ومسلحين موالين لنظام صالح، وهؤلاء شكلوا تالياً عصابات البلاطجة، الذين لعبوا دوراً رئيساً في الهجمات التي شنها النظام على شبان الثورة لقمع ثورتهم المطالبة بإسقاطه . ولاحقاً قرر عدد من الشباب الاعتصام في ساحة صغيرة أمام جامعة صنعاء وانضم إليهم المئات ثم الآلاف، حيث نصبوا الخيام وبدأوا في تنظيم أنفسهم وتشكيل لجان للاستقبال والإسعافات الأولية ولجان للأمن مهمتها تفتيش الداخلين للساحة التي أصبحت تعرف باسم “ساحة التغيير” . بدأت الأصوات المناهضة لنظام صالح ترتفع أكثر وتهتف في تظاهرات وسط العاصمة بشعارات تطالب برحيل الرئيس وطيلة شهر فبراير/ شباط، كانت الثورة تكسب مع مرور كل يوم تعاطفاً شعبياً أكبر وينضم إليها الآلاف خاصة يوم الجمعة حيث يؤدي عشرات الآلاف الصلاة في ساحة التغيير، وفي مجتمع مسلح أكد المتظاهرون على سلمية ثورتهم، وبرهن اليمنيون على عراقتهم وحضارتهم بترك السلاح والانضمام إلى الثورة الشعبية من اجل إسقاط نظام ديكتاتوري بطرق سلمية . لقد سقط مئات الضحايا، لكن لا توجد إلى الآن إحصائية دقيقة لعدد القتلى والجرحى رغم مرور عام على الثورة، ويقول مسؤول الشكاوى في منظمة “هود” عبدالرحمن برمان ل”الخليج” إن المنظمة بصدد إعداد تقرير شامل وإنها ستستكمل التقرير والإحصائيات من المحافظات في القريب العاجل، إلا أن اللجنة التنظيمية للثورة اليمنية تؤكد سقوط 1132 قتيلاً و22321 جريحاً حتى نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي . لقد تعددت وسائل القمع التي استخدمها نظام صالح من استخدام مجاميع مسلحة إلى الغازات السامة والرصاص الحي واستخدام المدفعية الثقيلة والدبابات في قصف الأحياء السكنية في مدينة تعز وفي مناطق أرحب ونهم بصنعاء، كما استخدمت سلاح العقاب الجماعي بحرمان المواطنين من الخدمات الأساسية . يقول المحامي غازي السامعي ل “الخليج” إن القمع الوحشي للمتظاهرين تسبب في تعرض المئات لإعاقات دائمة، مشيراً إلى أن بشاعة النظام وصلت إلى حد استخدام المدارس كثكنات عسكرية والمستشفيات كمواقع لقصف الأحياء السكنية، كما حدث في مدينة تعز التي ظلت تقصف من مواقع عسكرية في مستشفى الثورة العام وقلعة القاهرة التاريخية ومكتب التربية والتعليم ومجمع قضائي في جبل “جره” المطل على المدينة . ويوضح المحامي توفيق الشعيبي أن جرائم نظام صالح ضد الشعب اليمني لم تقتصر على قتل المتظاهرين السلميين وقصف الأحياء السكنية، بل امتدت إلى ممارسة عقاب جماعي ضد الشعب تمثل بانقطاع خدمات الكهرباء والمياه وأزمات الوقود وانتشار القمامة التي أغرقت المدن اليمنية في النفايات . ويؤكد الشعيبي ل”الخليج” أنه تم توثيق جميع جرائم النظام ورفعها لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الدولية، كما تم رفع دعاوى اتهام للنيابة العامة اليمنية ضد الرئيس صالح ونجله أحمد، باعتباره قائد قوات الحرس الجمهوري، كما رفعت دعاوى ضد قادة الأمن المركزي والشرطة العسكرية ومديري الأمن الذين ثبت تورطهم في جرائم قتل المتظاهرين، ويعرب الشعيبي عن أسفه لكون النيابة العامة لم تحرك ساكناً إزاء هذه الدعاوى . وسقط عشرات الأطفال بالرصاص، وذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونسيف” أن 94 طفلاً قتلوا وأصيب 240 آخرين منذ بدء الثورة، كما استهدفت رصاص قناصة صحفيين يمنيين أثناء تأديتهم لأعمالهم، وسقط خمسة صحفيين قتلى منذ بدء الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام في فبراير/ شباط 2011 . اختطافات وتعذيب ومن الوسائل التي استخدمها النظام لقمع الثورة، اختطاف أعداد من المشاركين في التظاهرات، وتكشف منظمة “هود” الحقوقية عن وجود عشرات المعتقلين من شباب الثورة في سجون النظام لم يفرج عنهم رغم توجيهات النائب العام ووزير الداخلية . ويؤكد مسؤول الشكاوى في المنظمة أن المعتقلين تعرضوا لتعذيب وحشي وبعضهم غادر السجون وهو مصاب بأمراض نفسية نتيجة التعذيب . ويؤكد أحد شباب الثورة ويدعى صامد القرشي تعرضه لتعذيب جسدي وللضرب المبرح في سجن الأمن المركزي، ويوضح القرشي ل “الخليج” أنه تم اختطافه من شارع الزبيري جولة “عصر” يوم 24 سبتمبر/ أيلول واقتيد إلى سجن الأمن المركزي حيث تعرض للتعذيب، ثم نقل إلى السجن المركزي بجانب المحكومين بالإعدام، حيث قضى 45 يوماً من دون محاكمة ولم يسمح له بالتواصل مع أسرته أو مع محام ومنع فريق منظمة “هود” من الاطلاع على قضيته أو الالتقاء به، وأفرج عن القرشي يوم 6 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي . تقول الناشطة في ساحة الحرية بتعز منال الجنيد ل”الخليج” إن شقيقها الناشط في الثورة طه الجنيد تعرض للاختطاف من قبل جنود موالين لصالح، وبعد 3 أيام عثر على جثته بالقرب من معسكر اللواء 33 وعلى جسده آثار تعذيب وحشي وهمجي . وروى أحد المختطفين من شباب الثورة ويدعى “عمار الهريشة” انه تم اقتياده إلى سجن في معسكر السواد حيث قيادة الحرس الجمهوري، وتم وضعه في زنزانة صغيرة حجمها (متر ونصف*70 سم) وهو مكبل بالقيود إلى الخلف وعيناه معصوبتان، كما تم منعه من استخدام دورة المياه لمدة يوم ونصف وتعرض لتعذيب نفسي وجسدي داخل السجن . وتحدث الهريشة أنه تعرض للضرب والصفع على الوجه عند إجراء التحقيق معه، مشيراً إلى أنه في الوقت الذي أدخلوه الزنزانة تم خلع ملابسة ليكتشف بعدها أن الزنزانة التي نقل إليها كان بها ثعبان . وقال الهريشة إنه شاهد في غرفة التحقيق “أشد أنواع التعذيب” لأحد المعتقلين عند التحقيق معه: “لقد رأيتهم يضربونه في الرأس بقطعة من الحديد حتى سال الدم من رأسه على الأرض وهو يصرخ (أنا مظلوم أنا مظلوم)” . أبرز محطات العنف ضد الثورة * جمعة الكرامة (18 مارس): كان 11 فبراير/ شباط يوم انطلاقة الثورة، ويمكن اعتبار يوم الجمعة 18 مارس / آذار نقطة التحول الكبرى في مسيرة الثورة والمشهد السياسي اليمني بشكل عام . منذ بدايات الثورة مارس نظام صالح التحريض بشكل علني ضد المعتصمين باعتبارهم “مخربين” و”عملاء” و”دعاة فوضى” و”مندسين”، وقاد الرئيس السابق علي عبدالله صالح حملات تحريض ضدهم في أغلب الأحيان من خلال خطاباته التي كانت تقول إن اليمن ليست تونس وليست مصر وإنه لن يتهاون مع من يريد تدمير المنجزات والمكتسبات . وشنت وسائل الإعلام الرسمي والتلفزيون الحكومي حملة تحريض ضد المعتصمين بذريعة إقلاق السكينة العامة وإزعاج سكان الأحياء المجاورة لساحة الاعتصام، وفي 18 مارس/ آذار ارتكب أنصار صالح مجزرة بشعة فيما أصبح يعرف ب “مذبحة جمعة الكرامة” حيث كان آلاف المعتصمين يؤدون صلاة الجمعة، فيما كان مسلحون يعتلون أسطح المنازل المطلة على ساحة الاعتصام وعقب الصلاة أمطروا المعتصمين بالرصاص الحي فسقط 53 شهيداً وأصيب 617 آخرون، وتركزت معظم الإصابات في الرأس والرقبة والصدر . وتعد مجزرة الكرامة من أبرز محطات العنف ضد الثورة حيث استخدم أنصار النظام الرصاص الحي لقتل المعتصمين سلمياً، في مذبحة بشعة هزت اليمن وأدت إلى انشقاق قائد الفرقة الأولى مدرع الجنرال علي محسن الأحمر مع قائد المنطقة العسكرية الشرقية وعدد من قادة الألوية، كما أدت إلى استقالات لعشرات المسؤولين والسفراء . وانضم الملايين إلى الثورة التي اتسعت إلى أغلب المدن اليمنية، وبدأ شباب الثورة في تنظيم تظاهرات بأعداد كبيرة تتخطى ساحات الاعتصام إلى شوارع ومناطق جديدة، وقد تعرضت هذه المسيرات لاعتداءات من قبل قوات الأمن المركزي التي كانت تستخدم الرصاص الحي وغازات مسيلة للدموع ينتج عنها طفح جلدي وتشنجات، ويؤكد ضابط في الأمن المركزي رفض ذكر اسمه ل “الخليج” أن قنابل الغاز التي استخدمت ضد المتظاهرين ليست سامة، لكنها منتهية الصلاحية مضى سنوات على تكدسها في المخازن، وعند إطلاقها بشكل مباشر تصبح خطرة وتؤدي لإصابات وتشنجات شديدة في الجسم . * محرقة ساحة الحرية: تصاعد العنف في شهر مايو/ أيار حيث سقط عشرات المحتجين برصاص قوات الأمن المركزي والحرس الجمهوري وقناصة في مدن تعز، صنعاء والحديدة، لكن محرقة ساحة الحرية بتعز تظل محطة بارزة للعنف ضد الثورة اليمنية تؤكد اتساع شهوة القتل لدى نظام صالح من أجل البقاء في السلطة، التي اقتحمت ساحة الاعتصام بمدينة تعز بالدبابات والمدرعات يوم 29 مايو/ أيار . يقول المحامي والناشط في الثورة توفيق الشعيبي ل “الخليج” أن عملية الاقتحام تم الإعداد لها مسبقاً، حيث تمركز مسلحون في العمارات المجاورة للساحة، وبدأ الاقتحام منتصف الليل وبهمجية ووحشية تم إحراق الخيام وتدمير المستشفى الميداني ونهب محتويات مستشفى الصفوة الواقع في محيط الساحة . ويوضح مدير المستشفى الميداني بتعز الدكتور صادق الشجاع أن 18 شخصاً سقطوا خلال عملية الاقتحام وجرح العشرات . وقد ارتكبت قوات صالح ومجاميع البلاطجة مجازر وحشية بحق المتظاهرين في صنعاء خلال شهري أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني الماضيين، وأفاد المستشفى الميداني بساحة التغيير أن الأمن استخدم الرصاص الحي وقذائف ال “آر بي جي” في قمع المتظاهرين، حيث وصلت بعض الجثث وقد تناثرت إلى أشلاء وبعضها بدون رأس . * استهداف النساء: أصاب رصاص مسلحين موالين لصالح السيدة عزيزة عثمان (42 عاماً) أثناء مشاركتها في مسيرة سلمية يوم 16 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وقالت التقارير الطبية إن رصاصة اخترقت رأس عزيزة وفارقت الحياة على الفور، وتعد أولى ضحايا الثورة من النساء . ووفقاً لتقارير حقوقية سقط أكثر من 20 إمرأة نتيجة العنف الذي تعرضت له المسيرات وقصف المدن بالأسلحة الثقيلة، ولقت ثلاث متظاهرات حتفهن في مذبحة يوم الجمعة 11 نوفمبر/ تشرين الثاني بتعز، حيث سقطت قذيفة دبابة في ساحة الاعتصام بتعز وأودت بحياة ناشطات بارزات في الثورة هن: تفاحة العنتري وياسمين الأصبحي وزينب العديني . * الملف الأمني: يقول الناشط فهد الحامدي إن نظام صالح لم يكف خلال شهور الثورة عن إثارة المشكلات الأمنية التي وصلت إلى مستوى الأحياء في محافظة تعز الجنوبية، خصوصاً بعدما واجه شبان الثورة بصلابة عملية الاقتلاع الدموي لساحة الحرية . ولم يكن ذلك برأي الناشط عبدالرقيب الشيباني محصوراً على محافظة بعينها بل في كل المحافظات التي شهدت حال تدهور أمني مريع وعمليات نهب وسلب للمرافق الحكومية وإتلاف للوثائق في العديد من مؤسسات الدولية والتي كان النظام يخشى أن تتحول إلى ورقة إدانة لنظامه في المستقبل . وتجلت صور محاولات نظام صالح اللعب بالورقة الأمنية مع شروعه في توزيع كميات هائلة من السلاح الخفيف على مؤيديه وحشده المئات من البلاطجة وخريجي السجون لشن هجمات على شبان الثورة وعلى التظاهرات النسائية واختلاق قلاقل أمنية بشن هجمات على المواطنين في الشوارع وعمليات إطلاق النار العشوائي في الأسواق وغيرها . ويلفت الشيباني إلى أن لعب النظام بالورقة الأمنية لم يكن له حدود ولم يلتفت لمصالح اليمن السيادية فدعم تنظيم القاعدة الإرهابي في محافظة أبين بعدما سلم له ترسانة من السلاح كانت في معسكرات الجيش التي أخلتها قواته من دون أي مقاومة ليزج النظام بمحافظة أبين وسكانها في أتون أزمة خانقة سعياً لكسب تأييد دولي يؤيد لبقائه باعتباره الشخص الوحيد القادر على مواجهة خطر القاعدة وليقول للعالم إن اليمن سيكون خطراً على الأمن الإقليمي والعالمي في حال رحيله عن السلطة . * عواصف التغيير: نتيجة التشكل السريع لساحات الاعتصام واحتشاد مئات الآلاف من شبان الثورة المطالبين بالتغيير الديمقراطي وتصاعد التظاهرات الشبابية التي انحسرت معها تظاهرات أحزاب المعارضة، بدا نظام صالح مصراً على الصمود وعدم الانحناء أمام العواصف الشعبية المطالبة بالتغيير، عكس ذلك مبادراته المتسارعة للإصلاحات السياسية والاقتصادية ودعوته المتكررة إلى “الاصطفاف الوطني لمواجهة التحديات” والتصدي لما أسماها “مشاريع الفوضى الخلاقة”، فضلاً عن دعوته المواطنين إلى اليقظة حيال “المؤامرات التي تستهدف الاستقرار والسلم الأهلي” وإعلانه قرارات سياسية واقتصادية جريئة للغاية . حال نظام صالح دون ترك الشارع مفتوحاً لاحتجاجات مناهضيه وشرع بتنظيم تظاهرات تأييد كانت الأكبر من نوعها ومثلت عامل اطمئنان للنظام الذي بدا غير مقتنع تماماً بذلك، وشرع بحشد التأييد لنظامه لدى حلفائه التقليديين من زعماء القبائل وعلماء اليمن الذين وصفوا مبادرته للإصلاحات السياسية بأنها “إيجابية” وتعكس “المعاني الإسلامية السامية”، بل و”مفتاح” لخروج البلاد من الإشكالات التي اعترضت بعض شؤونها مؤخراً” . في موازاة خطاب تحريضي أعتمده نظام صالح في مواجهة شبان الثورة بالعنف والسلاح، أطلقت منظمات حقوقية وأحزاب تحذيرات واسعة من تداعيات هذا الخطاب في إثارة الانقسامات والنزاعات بين المكونات المجتمعية اليمنية وخصوصاً بعدما ثبت في مرات عدة تورط نظام صالح في دفع مجموعات أمنية بزي مدني من مؤيديه للاشتباك مع المتظاهرين المسالمين . هذه التحركات وغيرها أثارت مخاوف واسعة لدى الأوساط السياسية والحقوقية التي حذرت من آثار سلبية قد تهدد الاستقرار الاجتماعي الوطني، وشددت على المسؤولية الجنائية والقانونية الكاملة على القائمين بسائر أشكال التحريض، كما دعت القبائل اليمنية إلى “عدم الانجرار إلى فخ التحريض في مواجهة المحتجبين وإدارك المخاطر الشديدة الناتجة عن ذلك” . ويقول شبان الثورة إن لجوء نظام صالح إلى “الورقة المناطقية” إجراء خطير كونه شكل عامل تهديد للسلام الاجتماعي والوحدة الوطنية خصوصاً بعد شرع الرئيس شخصياً والعديد من رموز نظامه في توظيف هذه الورقة لحشد القبائل لتأييد نظامه وتحريضها لمواجهة المحتجين . * نظام بوليسي: ضمن سلسلة إجراءات شرعت فيها صنعاء لمواجهة الثورة الشبابية اتجه نظام صالح إلى فرض إجراءات رقابية بوليسية انتهكت الحقوق الدستورية لليمنيين في حرية الاتصالات والتجمع والتظاهر، فيما كانت مظاهر العنف السياسي تتوالى، وتعدت قمع الشارع الغاضب المطالب بالتغيير إلى الشروع بإجراءات لإصدار تشريعات تضمنت توجهات مباشرة بتضييق هامش الحقوق والحريات عن طريق مراقبة المكالمات الهاتفية والمراسلات البريدية والإلكترونية ومنح أجهزة الأمن والشرطة صلاحيات التعامل بالقوة المسلحة مع من يقدرون أنهم يهددون الأمن والنظام العام . كان إعلان السلطات تقديم مشروع قانون الاتصالات وتقنية المعلومات إلى البرلمان يتيح للسلطات التنصت على المكالمات بأوامر إدارية من أكثر الخطوات خطورة التي أثارت احتجاجات واسعة كونه مثل انتهاكاً لنصوص الدستور التي تكفل للمواطنين سرية الاتصالات الرسائل البريدية والهاتفية وكافة وسائل الاتصال ويحظر مراقبتها وإفشاء سريتها عدا في الحالات التي يعينها القانون وبأمر قضائي . وتصاعدت الدعوات المناهضة لهذا القانون بعد إعلان مسؤولين وأعضاء في البرلمان بأن قرارات صدرت سابقاً بحقه أدت إلى تجميده لأشهر طويلة وتأكيدهم بأنها عاودت تقديمه إلى البرلمان بناء على قرار اتخذه مجلس الدفاع الأعلى برئاسة صالح حينها لاستكمال الإجراءات القانونية بشأنه ما أعتبره قانونيون “كارثة تشريعية” تمس الحريات العامة . كذلك قدمت صنعاء مشروع قانون الشرطة إلى البرلمان لإقراره يتيح لرجال الأمن والشرطة القتل المتعمد للمواطنين والمتظاهرين بمجرد الأشباه كما يتيح لهم مباشرة إجراءات لتوفير الحماية الأمنية لأنفسهم في مختلف الظروف، ما أثار موجة احتجاجات، خصوصاً مع محاولة حزب المؤتمر المسيطر على غالبية مقاعد البرلمان تمرير هذا القانون في غياب الكتل السياسية المعارضة التي واصلت مقاطعة جلسات المجلس النيابي احتجاجاً على تفرد المؤتمر بتعديل قانون الانتخابات وتعديل الدستور . وبدا هذا القانون كارثياً من جهة أنه تضمن نصوصاً قانونية توسع من صلاحيات رجل الأمن أثناء تأديته مهامهم وتقيد مساءلتهم القانونية عند تجاوزهم صلاحيتهم بموافقة المدعي العام ووزير الداخلية إلى تضمنه آليات للإفلات من العقاب في حال ارتكاب رجال الشرطة جرائم عن طريق إثبات أنه كان يعتقد بمشروعية فعله وأن اعتقاده مبني على أسباب معقولة، ما اعتبره قانونيون غطاء لأي جريمة قد يرتكبها رجل الأمن والشرطة وتشجيعاً واضحاً على القتل والتحريض، خصوصاً أن القانون وفّر حماية مسبقة لمرتكب الجريمة وأعطى الشرطة صلاحيات القمع المسلح للمدنيين بذريعة “حماية النظام والأمن العام” . ولم يكف شبان الثورة عن تنظيم التظاهرات المناهضة لهذه القوانين وتوجيه رسائل إلى القوى السياسية والمحيط الخليجي والمجتمع الدولي على تمادي نظام صالح في القمع إلى التحذير من مخاطر إصدار هذه التشريعات ونظموا العديد من التظاهرات وفعاليات ثقافية وسياسية للمطالبة بإسقاط هذه التشريعات ومنع إجراءات المصادقة عليها في البرلمان . “جمعة الإنذار” في الجمعة الثالثة كانت حركة الاحتجاجات قد وصلت إلى ذروتها، بعدما سجلت الحشود المناهضة لنظام صالح أرقاماً قياسية في ساحات التحرير والتغيير في المحافظات وتوحد مطالبها في رحيل صالح وأركان نظامه وتوقف الدراسة في أكثر الجامعات والمدارس في العاصمة والمحافظات بعد انخراط أكثر الطلاب في صفوف المحتجين . وأشاع استمرار الاحتجاجات وتصعيد نظام صالح عمليات القمع بحق المحتجين السلميين قلقاً محلياً ودولياً عبرت عنه الكثير من العواصم الغربية والعربية التي حذرت من تصاعد الاضطرابات السياسية وباشرت عمليات لإجلاء رعاها عن اليمن . وأرغمت تظاهرات “جمعة التحدي” في 13 مارس/ آذار 2011 نظام صالح على الإعلان عن خطوات للإصلاح السياسي ضمن مبادرة للإصلاح أعلنها من جانب واحد، وقضت بتأليف دستور جديد يخضع لاستفتاء شعبي نهاية 2011 يتيح فصلاً بين السلطات والانتقال إلى النظام البرلماني وتأليف حكومة برلمانية تنقل إليها سائر الصلاحيات الرئاسية بحلول نهاية العام، مع اعتماد نظام القائمة النسبية في الانتخابات وإطلاق حكم محلي كامل الصلاحيات بالتوازي مع تقسيم إداري للجمهورية يعتمد نظام الأقاليم . وتراجع نظام صالح عن قراره تنظيم الانتخابات النيابية وأعلن حزبه “عدم إمكان إجراء الانتخابات في موعدها القانوني استناداً إلى جداول الناخبين الحالية”، بل ولفت إلى أن صالح أرجأ دعوة الناخبين إلى المشاركة في الانتخابات في الموعد القانوني لهذه الدعوة لإتاحة الفرصة للجنة العليا للانتخابات تعديل جداول الناخبين وفقاً للقانون . لم يكترث شبان الثورة لمبادرات صالح وأعلن “ائتلاف شباب الثورة” الاستمرار في الاعتصامات لحين سقوط النظام وحددوا قائمة مطالب شملت تنحي صالح من منصبه فوراً وعزل أقاربه من مؤسسة الجيش والحكومة وتأليف مجلس وطني انتقالي من خمسة أعضاء وحكومة انتقالية من التكنوقراط لتصريف الأعمال وجمعية تأسيسية لصوغ دستور جديد يتيح الانتقال إلى النظام البرلماني وحكم محلي كامل الصلاحيات لإعادة بناء مؤسسات الدولة ومحاكمة المتورطين في قضايا الفساد والاعتداءات التي تعرض لها المحتجون في المحافظات . كانت هذه المبادرة التي أجمع عليها شبان الثورة من أكثر الفرص التاريخية التي أتيحت لنظام صالح، لكنه أهدرها، كما أهدر فرصاً كثيرة كانت أتيحت له للشروع بخطط للإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل كان يمكن أن تجنبه أكثر الثورات الشعبية المناهضة لنظامه . وفي المقابل، شنت قوات الجيش هجوماً على المحتجين في ساحة التغيير وحصارها لأيام بقوات عسكرية مدججة بالسلاح الثقيل ما دعا عدداً من أبرز علماء المذهب الزيدي في اليمن الشعب والجيش إلى مؤازرة المحتجين في ساحات الاعتصام من أجل “إسقاط نظام صالح الفاسد والظالم”، فيما أصدر عدد من علماء الدين أول فتاوى دينية تنص على وجوب إسقاط النظام . “جمعة التلاحم” لم تأت الجمعة الثانية للثورة الشبابية التي أطلق عليها الثوار اسم “جمعة التلاحم” إلا وقد توسع التيار المناهض لنظام صالح مع إعلان المئات من أعضاء البرلمان والحزب الحاكم الالتحام بالمحتجين، فضلاً عن المئات من وجهاء ورجال القبائل الذين أعلنوا استقالتهم من حزب المؤتمر الحاكم، خصوصاً في قبيلتي حاشد وبكيل كبرى القبائل، والذين اضطلعوا تالياً بتأمين التظاهرات سعياً للتقليل من آثار المواجهات بين مؤيدي النظام ومناهضيه بعد 13 يوماً من الصدامات الدامية . وكما حال “جمعة البداية”، شهدت “جمعة التلاحم” مصادمات بين مؤيدي صالح ومناهضيه من شبان الثورة في عدة محافظات أوقعت قتلى وجرحى لترتفع حصيلة ضحايا الثورة الشبابية السلمية إلى أكثر من 250 قتيلاً وجريحاً . وشكل انضمام وبعض وجهاء قبيلتي حاشد وبكيل بما تمثلانه من ثقل قبلي وسكاني كبير إلى حركة الاحتجاج ضربة قاصمة لنظام صالح، خصوصاً بعد تقديم عشرات النواب والمسؤولين في الحكومة والمجالس البلدية وكذلك قادة منظمات المجتمع وبعض القيادة العسكريين استقالاتهم من الحزب الحاكم وإعلانهم تأييد مطالب المحتجين في إسقاط نظام صالح الذي حذر بدوره مما أسماها “مؤامرات تستهدف وحدة اليمن ومخططات تتبناها المعارضة للانقلاب على الشرعية الدستورية” . وفتحت المبادرة التي أعلنها بعض وجهاء القبائل الباب على مصراعيه لسلسلة انشقاقات عن نظام صالح، إذ أعلن المئات من الناشطين والأكاديميين والحقوقيين والطلبة تقديم استقالاتهم من حزب المؤتمر احتجاجاً على استخدامه العنف المفرط لقمع الاحتجاجات، فيما بدأت طلائع الجيش بالانضمام للثورة الشبابية تتوالي تباعاً، ما دعا صالح إلى إطلاق تصريحات اتهم فيها واشنطن وتل أبيب بإدارة غرفة عمليات لشن حرب إعلامية تستهدف زعزعة الأنظمة العربية، وأكد أن “الأحداث التي تشهدها المنطقة من تونس إلى سلطنة عمان تدار من غرفة عمليات في تل أبيب وتدار من البيت الأبيض”، مشيراً إلى أن المحتجين في اليمن “ليسوا إلا منفذين ويريدون جرّنا إلى استخدام العنف أو إلى حرب، لكننا لن ننجر إلى هذا المخطط، اليمن ليست تونس ولا مصر والشعب اليمني مختلف” . وفي محاولة لمنع الانهيار الكامل في جسد النظام أصدر صالح قرارات جمهورية بإقالة ستة محافظين منتخبين في خطوة أثارت ردود فعل غاضبة لدى الأوساط السياسية، خصوصاً أن صالح أستبدل القيادات المدنية بالمحافظات بقادة عسكريين في خطوة اعتبرتها المعارضة خرقاً فاضحاً لقانون السلطة المحلية الذي ينص على انتخاب المحافظين ويتيح للرئيس صلاحيات تعيين لهؤلاء في ظروف محددة .