تقويض المُبادرة الخليجية!
في عام 2011 خرج اليمنيون واليمنيات في ثورة شعبية استهدفت بشكل أساس استبداد الدولة وتسلطها وفسادها، وممارسة الحكم بأدوات تقع بمجملها خارج الدستور والقانون، ولم يرفع المحتجون آنذاك أي شعارات تقول إن من ضمن أهدافهم الفيدرالية وتفكيك اليمن، ونقل السلطة من "المركز المقدس"، أو الحديث عن الدستور وتغييره كهدف مركزي...إلخ، ليبدو الأمر الآن ضمن مسار العملية السياسية القائمة في اليمن مجرد تحايل رديء على مطالب الناس، الذين يريدون ببساطة دولة فعلية ترسي مبادئ العدل والمساواة وتكفل الحياة الكريمة، وهكذا يتم الأمر بحرف المطالب الأساسية نحو نقاشات أخرى بعيدة، تضع الأولوية للفيدرالية وتفكيك "المركز المقدس"- هذا المركز الذي أصبح يستغرق اليمن برمتها- ليصبح الأمر هو تقسيم البلد كإقطاعيات وأقاليم بين مراكز القوى القديمة والصاعدة، وتلك المستعادة من الماضي، لا تمكين اليمنيين من المشاركة في الحكم وتوزيع السلطات بينهم كما يتم الترويج زوراً.
في إطار كل ذلك يشكل مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي يوشك على إنهاء أعماله ميدان التسوية التي يتم فيها اقتسام اليمن بين الأقوياء ضمن فكرة الفيدرالية، وعلى الرغم من كون مسار العملية السياسية الحالي، وفي قلبه الحوار، يعتمد على الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية، فإنه يقوم بالتحايل عليها والخروج على ما تضمنته بالأساس، وخصوصاً في ما تخلص إليه نتائج مؤتمر الحوار التي يتم تداولها، وعلى الوجه الأخص ذلك الشق المتعلق بتهديم شكل الدولة الحالي، وتفكيك الجغرافيا الوطنية ضمن عملية "فيدرالية" بدون أي رؤية علمية، تحولت فيها هذه الأخيرة إلى مُخلص أسطوري في أذهان معتنقيها.
تقول الآلية في الجزء الرابع منها والمتعلق بمهام وصلاحيات الرئيس الانتقالي وحكومة الوفاق إن مهمتهم الأساسية.
- تأسيس عملية للإصلاح الدستوري تعالج هيكل الدولة والنظام السياسي وعرض الدستور بعد تعديله على الشعب اليمني في استفتاء.
- إصلاح النظام الانتخابي.
- إجراء انتخابات مجلس النواب ورئيس الجمهورية وفقاً للدستور الجديد.
ولا توجد أي إشارة في كل ذلك للحديث عن تفكيك الدولة وتغيير النظام السياسي للبلد ضمن فكرة مثل الفيدرالية، إنما الحديث هو عملية إصلاح دستورية "هيكل الدولة والنظام السياسي" وكل ذلك مرهون بموافقة اليمنيين على أي تعديل في استفتاء، أي أنه أمر على محدوديته لا يخول به أحد صلاحية مطلقة، ومعلق في الأخير لقرار كل اليمنيين شمالاً وجنوباً.
وإضافة إلى ما سبق، تقول المادة (19) من الآلية في الشق المتعلق بمهام مؤتمر الحوار التالي: يبحث المؤتمر في ما يلي:
(أ) عملية صياغة الدستور، بما في ذلك إنشاء لجنة لصياغة الدستور وتحديد عدد أعضائها.
(ب) الإصلاح الدستوري ومعالجة هيكل الدولة والنظام السياسي واقتراح التعديلات الدستورية إلى الشعب اليمني للاستفتاء عليها.
(ج) يقف الحوار أمام القضية الجنوبية بما يفضي إلى حل وطني عادل لها يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه.
(د) النظر في القضايا المختلفة ذات البعد الوطني ومن ضمنها أسباب التوتر في صعدة.
(هـ) اتخاذ خطوات للمضي قدماً نحو بناء نظام ديمقراطي كامل، بما في ذلك إصلاح الخدمة المدنية والقضاء والإدارة المحلية...الخ.
وفي إطار هذه الأهداف الواضحة يبدو جلياً للغاية أن ما تقوله الآلية هو "معالجة هيكل الدولة" و"اقتراح التعديلات" للشعب الذي هو من يقرر بشأنها في الأخير، لا سواه ممن ينتحلون الحديث باسمه في موفمبيك، وبخصوص القضية الجنوبية التي يتم تسويق الفيدرالية باسمها يحصر الأمر صلاحية الحوار بتقرير الحلول بشأنها بأن يكون مقيداً (بما يفضي إلى حل وطني عادل يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه) ولم يتم الحديث عن فيدرالية أو أقاليم ستضع اليمنيين، ضمن الانقسامات والضعف الهائل الذي يعتري الهوية الوطنية، في مواجهة بعض على خطوط تماس جديدة ومفتعله تمزق النسيج الوطني المهترئ بالأساس.
وتأكيداً على عدم تصريح أو تلميح الآلية التنفيذية في تحديدها لأهداف الحوار بأي حديث عن فيدرالية تشير المادة (ج) الواردة أعلاه أن من مهام الحوار (إصلاح الخدمة والقضاء والإدارة المحلية) ويُمكن التأكيد هنا على الآخيرة، أي الإدارة المحلية، التي هي الوضع الحالي للدولة، حيث الحديث عن إصلاحها بغرض استمراريتها بما تشكله من تعبير نقيض للفيدرالية التي يُراد الخروج بها كنتيجة لهذا الحوار الجاري! علاوة بالطبع على إصلاح الخدمة والقضاء ضمن حديث يدور برمته ضمن شكل الدولة اليمنية الحالي لا سواه.
مرة أخرى أعود لتأكيد مسار ما أقوله بضدية ما يحدث من مداولات في الحوار، وهذا التأكيد على الفيدرالية، مع ما تقوله الآلية التنفيذية، وهنا سأستعرض المادة (23) التي تتعلق بإدارة الانتخابات في ظل الدستور الجديد حيث تقول المادة (خلال 3 أشهر من اعتماد الدستور الجديد، سيعتمد البرلمان قانوناً لإجراء انتخابات وطنية برلمانية، وكذلك انتخابات رئاسية إذا كان الدستور ينص على ذلك، وسيعاد تشكيل اللجنة العليا لشؤون الانتخابات والاستفتاء وإعادة بناء السجل الانتخابي الجديد وفقاً لما يتطلبه هذا القانون، وسيخضع هذا القانون لاستعراض لاحق من قبل البرلمان المنتخب حديثاً). ويبدو واضحاً من نصحها الحديث أن مجلس النواب الحالي سيقوم باعتماد قانون لإجراء انتخابات وطنيه برلمانية ورئاسية، إذا كان الدستور الجديد ينص على الأخيرة، بمعنى أن مناط التغيير في شكل النظام السياسي هو ما بين نظام برلماني أو رئاسي أو مختلط لا غير، علاوة على أن هذا القانون سينظم انتخابات وطنية لبرلمان وطني جامع كما سبق أن تم اختيار مجلس النواب الحالي، ولايتم الحديث عن برلمانات أقاليم أو سوى ذلك كما يقتضيه نظام فيدرالي مفترض.
إن تبرير السياق المُدمر الذي يذهب إليه مؤتمر الحوار مُنتهياً بتقسيم اليمن وفدرلتها، بالقول إن ذلك مُنسجم مع المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية هو كذب فج ووقح، ولا يمتلك أي شيء يُسنده في نصوصها، ولا يعدو الأمر سوى تضليل على الشعب اليمني من أمراء الخديعة الذين طالما تحالفوا عليه وأفسدوا مستقبله، لينتهي الأمر بهم إلى تقسيم الأرض التي يعيش عليها.
ومما يجب تأكيده أيضاً، أن اليمن لا تنعم بذلك الانسجام العظيم بين مكوناتها الاجتماعية، حتى تتم مناقشة مشاريع الفدرلة بهكذا استرخاء! لقد أفصحت الفترة القريبة عن: كيف استيقظت بعنف مختلف التعريفات الضيقة لكل جماعة يمنية تُريد أن تتمايز لأي سبب كان، وهكذا تبلورنا كهاشميين وقحطانيين، وجنوبيين وشماليين، وتعزيين وصنعانيين...الخ، لتأتي هذه المناقشات الطائشة في موفمبيك عن تقسيم اليمن كمُحفز إضافي للشروخ والانقسامات في الهوية الوطنية، وأصبحنا من يوم لآخر نسمع عن إقليم هنا أو هناك، واحد ينطلق منه هوية جهوية، والثاني من تفوق حداثي مزعوم، وثالث من انسجام قبلي مفترض وهكذا دواليك! ويُفترض بنا أن نُصادق على هذه الطريقة القبيحة التي يتم فيها تمزيق اليمن وعلاقة أفراده ببعضهم، فقط لأن الرئيس الذي يُراد أن نمدد له ولأن أولي الأمر من شركائه لم يقوموا بواجبهم في حل مشاكل البلد وإعادة الحقوق لأصحابها، وفتح فضاء السياسة بشكل فعلي أمام الناس، لا استدعاء بعضهم كديكور في مؤتمرات فارهة لا تخص عموم اليمنيين الفقراء. إن هذا البلد يتهالك في الخيارات الرديئة، وبينما يمضي الحوار الوطني في دوشته مُنفرداً وغير مُبالٍ، يستمر النسيج الوطني بالتمزق والاهتراء، ويتم تقاسم الدولة كأي جثة نافقة يتخاطفها وحوش البرية، وتفسد الفرص المتبقية لتدارك هذا الانحدار السريع، ويستمر تساقط الخيارات المحترمة أمام فكرة "الحاصل"، وكل ذلك بمباركة أممية لا تفعل شيئاً سوى مُصادرة قرار اليمنيين والثناء على ولي الأمر.
نشر في صحيفة الاولى عدد اليوم الموافق 6/10/2013
- قرأت 379 مرة
- Send by email
أضف تعليقاَ