علكة لبان إسمها.. الثورة

 
في البدءِ كان بوسعي أن أتحدث كذاتٍ مُفردة تبحث عن كينونةِ جمعية عامة لا تُلغي فردانيتها....
و مع إندلاع أحداث فبراير السنة الفائتة تصوَّرتُ لوهلة أن من الأنانية مقاومةَ ذوبان الذات في هذا الخِضمِّ الشعبي الذي بدا كعنقاء نفضت عن جناحيها
رماد الموت على أُهبة الإقلاع صوب فضاء يليق بإنسانيتنا جميعاً؛ نحن المهروسين تحت حوافر «بكر وتغلب» وأقدام الكهنة والمومياوات المتفسخة
تاريخياً وبيولوجياً...
وَهْلةُ وَهْمٍ مترعة بالبَله و السذاجة؛أفقتُ من غيبوبتها و قد صرت جَمْعاً محضاً...جَمْعاً قطيعياً يتساوى الواحد فيه بالألف و يختزل عدده وعديده مايكروفون
بذيءٌ صاخب قأقاء يهتك بزعيقه كل فضيلة وعقل ومنطق ووقار...في ساحة يتسيَّدها الأوسع فَمَاً والأغزر لُعاباً والأكثر خِسَّةً ووقاحة وخبثاً وهراءً.
أَحمدُ لجهازي المناعي فضلَ التعافي باكراً من وهلة الوهم العضال تلك ؛حتى مع كوني مستمراً في تسديد ضريبة التعافي الباهظة المتمثلة في سبر أغوار
الخدوش التي لحقت بذاتي ومعاناة تحرير حبالي الصوتية الملتبسة بالضجيج والعالقة في خضم معقد من الأسلاك الشائكة.
إنها نقاهة باهظة الكلفة؛ وتصمد كذريعة منطقية مؤقتة لدى سربٍ من القراء مازلتُ أعني بالنسبة إليهم شيئاً؛ ويسألونني:«لماذا لم تعد تكتب؟!»؛ فأرتبك
ولا أجد ما أتذرع به.
منذ أشهر وأنا اُمَشِّطُ مسرح اليباب والقحط باحثاً عن مساحة خِصب ضئيلة أتكئ عليها وأَنصبُ قامتي المثخنة بالإنكسارات؛ لأُعاود الكتابة.. بضعةُ
سنتيمترات أُوْدِعُها وردة الأمل الأخيرة الناجية من رماد هيروشيما الشاسعة هذه.
أعترف أنني كنت قد فقدت شهيتي- ليس للكتابة فحسب – بل للحياة بالمطلق. وفي غمرة ذلك تمنيتُ لو أنني كنت جثة تحت أنقاض القصف على أن أكون
كاتباً فوق الأنقاض وتلال الضحايا الذين افترستهم أشداق العبث في سبيل لا شيء!
غير أن الموت - كالحياة تماماً – أَمرٌ نقع فيه بالقسر ويختارنا ولا نختاره...ومن الوهم أن نشرط أهدافاً لحياتنا نزعم أنَّ لا معنى للإستمرار في الحياة حال
فَشِلنا في تحقيقها؛ فالحياة هي ذاتها أقصى هدف للحياة..هي الوسيلة والمغزى...وجثامين الشهداء الذين نتوقع لها أن تبرعم حقول دِفْلى وجلَّنار؛ هي -
في أغلب الأحيان – لا أكثر من وسائد وثيرة تحت مَرَافق الساسة العاكفين على لَعِبِ كوتشينة سياسية بريئة من كل طُهْر وعفاف المُثُلِ التي يسقط الشهيد
لتسود.
أمرٌ شنيعٌ أن تجلس فوق أضرحة الراحلين لتكتب «إن موتكم لم يُسفر سوى عن موتكم ورحيلكم كان هباءً محضاً».
لكن الأشنع أن تستوي على كرسي رئاسة التحرير لتُصفِّق للموت العظيم الذي يفقس عروشاً تحت مؤخرات الإنتهازيين الضخمة!
إن منطق النهوض والتغيير أَعقدُ من أن يُقاس بأعداد الموتى كثمن؛ وبأعداد الأشخاص المُزَاحين من واجهة الحكم كمكسب.
إن شبكة معقدة من العوامل والظروف والحوافز، فوق قدرة الغالبية على الإحاطة بها، هي التي تحكم حركة التاريخ، والتاريخ لا يأبه لأولئك الذين يحرثون
على الماء ثم يطالبونه باستحقاقات تضحيات لا وزن لها مهما كانت ثمينة؛ على محك منطق التحوُّلات الصارم.
وبحسب الدكتور ياسين سعيد نعمان فإن «على الشباب أن يعوا مكر التاريخ بالإنخراط فيه لا بالإبتعاد عنه»... إنها أصدقُ عبارة قالها سياسي خلال أحداث
العام الفائت. لكن أحداً لم يكن قادراً على التقاط رسالة كثيفة الدلالة وبعيدة الغور كهذه، وسط حالة الهياج القطيعي المهيمنة كلياً على مسرح الأحداث،
عوضاً عن عجز الغالبية بالقصور الذاتي في ترجمة مضمون الرسالة الى الواقع!
إن الحياة لا تعطي إلا بمستوى قابلية أحدنا على الإنتزاع والأخذ، فرداً كان أم جماعة؛ والذي لا يعي حدود الزنزانة التي يثور عليها؛ لا يعي بالضرورة –
حدود الحرية التي يريدها، وفي المحصلة فإنه لا يثور بالفعل ولا يريد بالفعل، بل ينخرط في حالة هستيرية من الزعيق هي في جوهرها استجداء بائس
لشفقة السجَّان.. حالة من الزعيق الهستيري تخلع على نفسها لقب ثورة، وينتقل المنخرطون فيها من نقطة الى أخرى داخل حدود الزنزانة ذاتها متخمين
بوهم الإنجاز، ولا يبلغون تخوم الحرية مهما طال زعيقهم!
لا غرابة في أن يفضي عامٌ من التجديف خارج البحر الى عبادة الغرق على اليابسة باعتباره خلاصاً بالنسبة لأكثرية من المغفلين وقلة من الخبثاء على
السواء.. ويؤسفني أن أكون وقحاً حد الإعتراف بأن مفردة ثورة صارت تقرفني، وقد تحولت الى علكة لبان رخيصة في أنتن الأشداق.. علكة يلصقها
الرعاع على مقاعد المواصلات العامة ومؤخرات النساء العابرات وكراريس أطفال الروضة وعلى آخر شجيرات المدينة القاحلة؛ من قبيل التحرُّش
المنتشي الزاهي...
الآن يعود شهريارات القبيلة والدين والسياسة والجنس بأرسخ مما كانوا عليه رافلين في مسوح الفاتحين، ليقرفصوا على ظهر بلد تؤمن المرأة فيه بلحية
الكاهن أكثر من إيمانها بوجهها، ولايرى أقنانُه أبعد من سور الإقطاعية وكرباج الشيخ،وعيون رعاياه لاتعلو على الحاجب،مخافة كَسْر نواميس الله وفطرته
التي فطر الناس عليها.....
إن لم تكن الثورة قد أطاحت بكل ذلك فبماذا أطاحت إذن؟! وماهي الثورة؟!
وإذا كانت أكثريةُ «الثوار» مجازاً تُبارك التعاطي مع البلد ككعكةٍ تتشاطرها عصابتان وترى في السِّفاح السياسي على «فراش نَجْد» شرفاً؛ وفي الجزمة
الأمريكية المتموضعة فوق رؤوس البشر بامتداد الخارطة تتويجاً ليبرالياً...إذا كانت الأكثرية الثورية «مجازاً» تقبل بكل هذا الهوان والدهس والاستحمار
والقوادة الفاضحة؛فماذا ترفض؟ّ! وعلى أي شيء تثور إذاً ؟!.. وماالذي يتبقى من ماء وجه الثورة حين تتعرَّى من راديكاليتها وزُهدها الثوري ونقائها و
تدخل «كباريهات فن الممكن» ؟!
لا شيء تَغيَّر بالمُطلق سوى أن البلد الذي يعاني من فقر الدم ارتفع منسوب نزيفه؛ وسوى أنه لايزال محاصراً بخيارين عريقين:«أن يُحزِّم خصره بعقال نَجْد
أو أن ينعق هذا العقال على عنقه مشنقة!»... لا شيء سوى أنني أحاول كالعادة سبر أغوار الخدوش وإحصاء خسائر بلد يدفع الكثير ولا يحصد شيئاً.
* * *
رسالة الى فرع الإصلاح بتعز:
اختطاف الشاب الناشط نبيل الحسام من مجموعة مسلحة الأسبوع الفائت؛ وقبله حارس مدرسة تحفيظ القرآن «بمسجد طلحة» وقبلهما بشهور الشاب
المسرحي بدر الدين الحاتمي وتعذيبهم نفسياً وجسدياً؛ جرائم تُنسب كلها الى مليشياتكم الحامية للثورة «مجازاً» فادفعوا عن أنفسكم تهماً كهذه ببيان توبة
ربما يُخفف من وزرها.

أضف تعليقاَ

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 0 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.