عودة إلى الحب ودعوة إلى الحرب!
لا مفارقة في أن البابا يصوم لأجل السلام، والقرضاوي يدعو إلى الحرب. أقول لا مفارقة، لأنها قد تبدو كذلك بالنسبة للبعض، انطلاقاً من كون البلد المعني بصوم البابا ودعوة القرضاوي بلداً عربياً مسلماً. في الحقيقة، كما أراها، إن هذا بالضبط هو ما ينفي المفارقة ويجعل القول بها بلا معنى.
صوم الباب لأجل السلام يأتي متسقاً مع شعور ووعي جمعيين هما الأكثر إنسانية وتحضراً، في الوقت الراهن على الأقل. فهو (البابا) يدرك معنى أن يطلق شخص مثله، بمكانته وصفته، دعوة إلى الحرب. إن تأثير دعوة كهذه لن يقتصر على شخصه ومكانته، بل وعلى الدين نفسه.
ليست مهمة البابا الدعوة إلى الحرب، ولا تحديد الأمور التي تتطلب شن الحروب أو خوضها. تلك مهمة السياسيين. أما الدين فأمر مختلف تماماً. الدين دعوة إلى الحب، لا إلى الحرب. ذلك ما تعلمه الغرب من الدرس التاريخي.
صوت القرضاوي أيضاً يأتي اتساقاً، لا فقط مع الظرف الموضوعي الذي تعيشه هذه المجتمعات (تشرذم وصراعا من كل الأنواع)، بل واتساقاً مع شعور ووجدان صحراوي، ونتاج بيئة ما تزال طاردة لكل ما هو حضاري.
الإسلام -بعظمته- انطلق من "وادٍ غير ذي زرع". غير أنه، في مرآة الحضارة الإسلامية وإمبراطوريتها المترامية الأطراف، لم يستقر في ذلك الوادي، فانتقل بمركزيته الحضارية إلى الأطراف، ليشكل أو يعيد تشكيل حواضر مثل بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة... لتبقى نجد والحجاز أشبه ببقعة صخرية في وسط البستان (هل لهذا الأمر علاقة بما قاله الرسول عن "قرن الشيطان"؟!).
"الإسلام الخليجي" هو الصورة الأوضح والتعبير النظري الأصدق عن طبيعة تلك المساحة الصخرية. جاف، متحجر، وعلى النقيض من كل ما هو حضاري أو متحضر.
كان ساسة أوروبا القرون الوسطى قد استغلوا تحالفهم مع رجال الدين ليشنوا الحروب الصليبية. كما استغل رجال الدين ذلك التحالف في إنشاء محاكم التفتيش. وكان الدرس قاسياً. ولقد وعاه الغرب جيداً، مجتمعات وساسة ورجال دين.
لكن العرب ما يزالون يعيشون اليوم "قرونهم الوسطى" الخاصة بهم. وبدلاً من أن يتعلموا من التجارب الإنسانية، ويبدؤوا من حيث انتهى الآخرون، نراهم يصرون على البدء من نقطة البداية، "من الصفر"، يرتكسون بالإنسانية لتخوض التجارب ذاتها. هي تجارب صحيح أنها وصلت بأوروبا إلى ما وصلت إليه؛ إلا أن ثمنها كان باهظاً وتكلفتها فادحة. آخر ما دفعته الإنسانية (في أوروبا) من تكاليف تلك الدروس ملايين الضحايا في الحربين العالميتين. "الأعراب" يبدو أنهم غير معنيين بهذا؟!
ختاما، يرى البعض أن الدعوة إلى شن حرب أمريكية على سوريا، إنما أراد بها القرضاوي "إنقاذ" شعب؛ فكأنها دعوة إلى الحرب باعتبارها طريقا السلام. لن ينفع مع هؤلاء أن يقول لهم المهاتما غاندي: "ليس هناك طريق إلى السلام. السلام هو الطريق". ولا أدري ما إذا كان بالإمكان استفزاز ذاكرتهم بالسؤال: منذ متى أصبحت آلة الحرب الأمريكية آلة لإنقاذ الشعوب، أو آلة للسلام؟! اللهم إلا إذا كانوا يقصدون سلاماً كالذي صنعته الولايات المتحدة بين العرب و"إسرائيل"!
- قرأت 533 مرة
- Send by email
أضف تعليقاَ